الوقت - في غمرة ما يستشعره الصهاينة ونفر يسير من العرب من استبشار بعودة قطار التطبيع إلى مساره المنشود مع تبوُّء ترامب سدة البيت الأبيض، تأتي تصريحاته المثيرة للجدل حول ترحيل أهل غزة إلى أقطار عربية شتى، لتؤجج نار الغضب الدولي، وتجعل من آفاق التطبيع المنشود أشدّ تعقيداً وأبعد منالاً.
وما استرعى الأنظار في هذا المضمار، ذلك الطرح الساخر الذي تقدّم به نتنياهو للمملكة العربية السعودية، داعياً إياها لتخصيص رقعة من أراضيها للفلسطينيين.
فحين أصدرت وزارة الخارجية السعودية بياناً صارماً تستنكر فيه مساعي التهجير والاستيطان، مشترطةً إقامة دولة فلسطينية مستقلة لأي تقارب دبلوماسي مرتقب، انبرى نتنياهو بتهكم لاذع، مشيراً إلى ما تزخر به السعودية من أراض شاسعة، زاعماً أنها تصلح لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة.
على الرغم من صمت المملكة العربية السعودية إزاء تلميحات نتنياهو الماكرة حتى هذه اللحظة، بيد أن صفحات التاريخ تنبئنا - بما لا يدع للشك سبيلاً - أن مطامع الصهاينة الإقليمية في أراضي جيرانهم قد آلت إما إلى استيلاء غاشم - كما تجلى في مرتفعات الجولان السورية ووادي الأردن المحتل - وإما إلى اضطرابات حدودية مستعرة - كما شهدت مناطق جنوب لبنان وحقل كاريش الغازي ومعبر رفح مع مصر، ومن ثم، فإن هذه التصريحات لن تظلّ حبيسة دائرة المزاح العابر، بل يُرتقب أن تؤجّج نيران الغضب في وجدان الشعب السعودي.
وفي جوهر الأمر، تنطوي هذه التلميحات المشوبة بالسخرية، على أبعاد جيوسياسية واستراتيجية غائرة في عمق التاريخ، تتجلى فيها ملامح مشروع "إسرائيل الكبرى" الممتد من ضفاف النيل إلى شواطئ الفرات.
فها هو نتنياهو، عبر طرحه الملتوي، يلقي بثقل القضية الفلسطينية على عاتق السعودية، مطالباً إياها بمنح الفلسطينيين شبراً من أراضيها الشاسعة، وفي طيات هذا الطرح المريب، رسالة خفية مؤداها أن الفلسطينيين لا يملكون حقاً تاريخياً في أرض آبائهم وأجدادهم، وأن عليهم أن يلتمسوا لأنفسهم موطناً في أرجاء الوطن العربي الفسيح، وما هذا إلا امتداد للسياسة الصهيونية المتجذرة الهادفة إلى اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، وطمس حقهم المقدس في العودة إلى ديارهم.
في خضم هذه الأحداث، تتجلى قضية جوهرية تنذر بالخطر المحدق - ألا وهي إحياء "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في خطاب ساسة البيت الأبيض، وما يكتنف رؤية ترامب من نزعة استعمارية متقلبة تستعصي على التنبؤ، فها هو يتحدث - متجاهلاً بصلف حرمة السيادة الوطنية للدول - عن حتمية رضوخ الحكومات العربية لمشيئته، وعليه، فليس ثمة ما يضمن ألا تمتدّ محاولات إقامة كيان جديد للفلسطينيين لتطال أجزاءً من الأراضي السعودية.
ولا يقف الأمر عند حد تفسير فكرة منح الأراضي للفلسطينيين من لدن السعودية بمجرد التنازل عن التراب أو تجزئة الأقاليم، بل يتعداه إلى ما هو أدهى وأمرّ: مخطط محكم لتوزيع أبناء فلسطين المشردين على الدول العربية وفق حصص مرسومة بعناية، وبالنظر إلى نهج نتنياهو وترامب، فإن السعودية - بما حباها الله من رقعة شاسعة وثروات وافرة - ستجد نفسها مرغمةً على فتح أبوابها لأفواج غفيرة من اللاجئين الفلسطينيين، الذين يربو عددهم على المليونين.
إن تغلغل مثل هذا التصور للسياسات الأمريكية والصهيونية تجاه مصير غزة في الوعي العالمي، لكفيل بأن يلقي بظلال قاتمة على مستقبل السعودية، حتى قبل أن تتكشف تداعياته المريرة على أرض الواقع.
لقد شرعت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة- في ظل رؤية أميرها الشاب محمد بن سلمان المتجلية في وثيقة رؤية 2030 - تشقّ طريقها نحو التقدم بمشروعات طموحة تتخطى حدود المألوف، وتستنهض همم الاستثمارات المحلية الضخمة، مستقطبةً في الآن ذاته سيولاً متدفقةً من رؤوس الأموال العالمية.
ويتربع على عرش هذه المشروعات العملاقة "نيوم" - ذلك الحلم المتجسد على أرض تبوك - حيث يمتد في أحضان الصحراء المترامية على تخوم الأردن ومصر، مُطلاً على خليج العقبة، في جوار السواحل الجنوبية للأراضي المحتلة.
وقد رُسم لهذا المشروع العملاق أن يتصدر مشهد المستقبل كقطب تقني واقتصادي في أرجاء المنطقة بأسرها، جاذباً إليه عمالقة الاستثمار من مشارق الأرض ومغاربها، وقد أماطت السعودية اللثام مؤخراً عن حجم الطموح، معلنةً حاجة هذا المشروع الضخم إلى استثمارات تتجاوز حاجز التريليون ونصف التريليون من الدولارات.
غير أن مقترح نتنياهو يلقي بظلال قاتمة على هذا الحلم، ناصباً في طريقه تهديدين خطيرين يتربصان بمستقبله:
أولاً: الاضطراب السياسي والأمني: تُلقي هذه التصريحات المريبة بظلالها القاتمة على مشهد الاستثمار في نيوم، ناشرةً ظلال القلق على السيادة الإقليمية، ومؤججةً نيران التوتر في أرجاء المنطقة، فما من ريب في أن أي اضطراب يعصف بهذه المناطق، كفيلٌ بأن يقوّض أركان الثقة في نفوس المستثمرين الدوليين، ويزلزل دعائم طموحاتهم.
ثانياً: المناورة بدافع التغلغل في أراضي السعودية: إن تصاعد الهواجس حول تحويل الأراضي المتاخمة لمصر والأردن إلى موطن مرتقب للفلسطينيين، من شأنه أن يغدو ذريعةً للتدخل في المشروعات الاقتصادية السعودية في قابل الأيام، ما يهدّد بتقويض الأمن الاستثماري من أساسه.
وليس بخافٍ على ذي بصيرة أن الكيان الصهيوني قد برع في فن التسلل إلى المشاريع الاقتصادية، متخذاً منها معبراً لبسط نفوذه وتحقيق مآربه الجيوسياسية والأمنية، وما ذلك إلا نذير شؤم ينبئ باختراق استراتيجي خطير يتهدد أراضي السعودية.
