الوقت - في الوقت الذي يشارف فيه اتفاق الهدنة بين الکيان الصهيوني ولبنان علی الانقضاء خلال عشرين يوماً - والذي يستوجب انسحاباً شاملاً للقوات المحتلة من الجنوب اللبناني بحلول السابع والعشرين من يناير - تُنذر التصريحات الصادرة عن أرکان تل أبيب بنوايا مُبيّتة للإبقاء علی وجودهم في الجنوب اللبناني حتی بعد انقضاء مُهلة وقف إطلاق النار، ويبدو جلياً أنّ بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الصهيوني، الذي يری في استمرار المواجهة مع فصائل المقاومة طوق نجاة لبقائه في سُدّة الحکم، يسعی جاهداً وبشتی الذرائع والمبررات إلی إطالة أمد التوتر مع حزب الله.
في مستجدات لافتة، کشفت قناة "کان" العبرية في تقرير يوم السبت الماضي، عن توجه محتمل لدی قوات الاحتلال الصهيوني لإرجاء انسحابها من الجنوب اللبناني، مُسوّغةً ذلك بمزاعم عدم وفاء الجيش اللبناني بالتزاماته المنصوص عليها في اتفاقية وقف إطلاق النار، وبطء وتيرة انتشار قواته في المنطقة، فضلاً عن رصد محاولات حزب الله لإعادة ترتيب صفوفه، کما تذرعت القناة بما وصفته إحجام الجيش اللبناني عن استهداف مواقع المقاومة.
تتجلی هشاشة هذه المبررات الواهية في ضوء الشکوك التي هيمنت منذ اللحظات الأولی لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار، حول مصداقية نوايا الکيان الصهيوني في الالتزام ببنوده، فلم تکد تمضي ساعات معدودة علی إبرام الاتفاق، حتی بادر جيش الاحتلال إلی خرقه عبر شنّ غارات جوية، لتتواصل سلسلة الممارسات الاستفزازية حتی اللحظة الراهنة، وتُظهر الإحصاءات الموثقة ارتکاب الکيان الصهيوني 349 خرقاً للاتفاق منذ سريانه، أسفرت عن ارتقاء 32 شهيداً وإصابة 39 آخرين.
وتتفاقم خطورة المشهد مع تزايد المؤشرات المقلقة حول مساعٍ صهيونية للترسيخ الدائم لوجودها في الجنوب اللبناني، وهو ما تتردد أصداؤه في أروقة تل أبيب، وتؤکد المصادر الإعلامية العبرية أن تل أبيب قد أحاطت واشنطن علماً بعزمها التنصل من الانسحاب، بعد انقضاء المهلة المحددة بستين يوماً وفق بنود الاتفاق، کما يُرجح أن تل أبيب قد أوعزت للإدارة الأمريکية بنيتها منع قاطني القری اللبنانية المتاخمة للحدود من العودة إلی ديارهم.
وفي تطور لافت، کشفت صحيفة الأخبار عن رسالة وجّهها الجنرال جاسبر جفرز، رئيس لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، إلی القيادة العسکرية اللبنانية، مفادها حاجة الکيان الصهيوني لهامش زمني إضافي لاستکمال عملياته البرية الهادفة إلی تفکيك منشآت حزب الله ومستودعاته، متذرعاً بما وصفه قصور الجيش اللبناني عن تطهير المنطقة، داعياً إياهم إلی التحلي بضبط النفس والصبر.
أهداف الکيان الصهيوني من مغامراته المتجددة في لبنان
من البديهيات الراسخة أن التحرکات الصهيونية علی الأراضي اللبنانية تأتي انعکاساً مباشراً للمستجدات الإقليمية الراهنة، ولا سيما علی الساحة السورية، فها هو نتنياهو، الذي استثمر حالة الاضطراب التي شهدتها سوريا في أعقاب صعود الجماعات المتمردة، وتمکن من اقتطاع أجزاء من أراضيها، يسعی - منتشياً بنشوة تلك "الإنجازات" المزعومة - إلی استنساخ هذا النموذج في الجنوب اللبناني.
ويستند المنطق الصهيوني إلی فرضية مفادها بأن تداعي نظام بشار الأسد، قد أفضی إلی تقويض شريان الإمداد العسکري لحزب الله، ما يجعله - وفق تقديراتهم القاصرة - في موقف أضعف من ذي قبل في مواجهة الکيان الصهيوني، وعليه، يسعون من خلال إطالة أمد المواجهة، إلی استکمال مشروعهم التوسعي غير المکتمل.
وفي سياق مخططهم لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، يتطلع الصهاينة إلی ضمّ أجزاء من أراضي محور المقاومة تحت مظلة سيطرتهم المزعومة، لذا، يحاولون توظيف حالة عدم الاستقرار في سوريا - والتي يزعمون أنها تُحکم الخناق علی حزب الله - لمدّ رقعة احتلالهم في الجنوب اللبناني.
ونظراً للتزامن الزمني بين انقضاء مهلة وقف إطلاق النار في لبنان وتولي دونالد ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض، يسعی نتنياهو، متکئاً علی دعم الإدارة الأمريکية الجديدة، إلی ترسيخ هيمنته علی جنوب لبنان، مستشعراً في المناخ الإقليمي الراهن فرصةً سانحةً لتحقيق مطامعه التوسعية.
تتمحور الغاية الأساسية للکيان الصهيوني في صراعه مع حزب الله، حول ضمان أمن المستوطنين وتأمين عودة المُهجّرين، وقد ساد اعتقاد راسخ بأن اتفاق وقف إطلاق النار، سيُفضي حتماً إلی عودة کل النازحين إلی مساکنهم في الشمال المحتل، بيد أنه، وعلی الرغم من إبرام هذا الاتفاق، يُبدي المستوطنون الصهاينة تحفظاً ملحوظاً وإحجاماً عن العودة إلی تلك المناطق، وتکشف المصادر الإعلامية العبرية أن نسبة العائدين إلی المناطق الشمالية لم تتخطَ عتبة الـ ٢٠٪، ما يعکس قناعتهم الراسخة بأن الوضع الراهن ليس سوی حالة عابرة محکومة بالزوال.
فالمستوطنون الفارون، الذين اکتووا بنار صواريخ حزب الله ومُسيّراته علی مدار العام المنصرم، ويدرکون في الوقت ذاته حقيقة نوايا حکومة نتنياهو المُبيّتة - التي تتجنب السعي نحو هدنة مستدامة في لبنان خدمةً لمصالحها الضيقة - يستشعرون حتمية اندلاع جولة جديدة من المواجهات، الأمر الذي يردعهم عن المجازفة بعودة مؤقتة إلی المناطق الشمالية.
وفي خضم استمرار إحجام المستوطنين عن العودة، تستشيط قيادة نتنياهو غضباً إزاء مشهد عودة اللبنانيين إلی ديارهم، ما يدفعها للتخطيط لمغامرة عسکرية جديدة تستهدف تفريغ الجنوب اللبناني من نسيجه السکاني، في مسعی محموم لتحقيق ما تتوهمه "توازناً" في المعادلة مع حزب الله.
ويبرز عامل آخر يستفزّ قادة تل أبيب، يتمثل في مزاعمهم بأن مضامين وقف إطلاق النار لم تستوفِ متطلبات أمن کيانهم، فبالنظر إلی توقيع هذا الاتفاق في مرحلة ما قبل انهيار الدولة السورية - حين رضخ الصهاينة له مرغمين تحت ضغط الاعتبارات الأمنية - يراودهم وهم القدرة علی انتزاع امتيازات إضافية من لبنان عبر شنّ هجمات واسعة النطاق.
ترسانة حزب الله المتأهبة لردع المعتدين
يُداعب مخيلة الصهاينة وهمٌ خادع بشن هجوم علی لبنان، متوهمين أن حزب الله يمر بمرحلة وهن، وأن قدرته علی الصمود ستتآکل سريعاً في حال اندلاع مواجهات جديدة، غير أنهم يتعامون عن حقيقة جوهرية راسخة مفادها بأن قوات المقاومة تقف علی أهبة الاستعداد، لمجابهة أي سيناريو عدواني يُقدم عليه الکيان المحتل.
وفي دلالة قاطعة علی تعاظم قدرات المقاومة وجهوزيتها، أطلق الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، في أحدث خطاباته رسالةً حازمةً للکيان الصهيوني، محذراً من أن "صبر المقاومة علی خروقات وقف إطلاق النار قد ينفد قبل انقضاء مهلة الستين يوماً".
وفي السياق ذاته، أکد محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي للحزب، التزام المقاومة بالتهدئة، مع تشديده علی أن تمادي العدو في خروقاته سيُفضي إلی تغيير جذري في قواعد الاشتباك، مردفاً: "لقد تحلينا بالصبر ستين يوماً، غير أن اليوم الواحد والستين سيحمل معه متغيرات جوهرية".
تشکّل هذه التصريحات رفيعة المستوی إنذاراً صارماً للکيان الصهيوني، مفاده بأن حزب الله لن يقف متفرجاً أمام تنفيذ المخططات التدميرية في الجنوب اللبناني، وأنه سيُلقن المحتلين درساً قاسياً حين تقتضي الضرورة الاستراتيجية ذلك، وعليه، وفي ضوء التحذيرات الحاسمة الصادرة عن قيادات حزب الله - والتي تحتفظ المقاومة بموجبها بحق الرد الرادع علی خروقات وقف إطلاق النار - باتت الکرة في ملعب الکيان الصهيوني ليحسم خياراته ويتحمل تبعاتها.
تجسّد هذه التصريحات والإنذارات الموجهة للکيان الصهيوني حقيقةً جوهريةً لا تقبل التأويل، مفادها بأن قوات حزب الله، رغم جسامة التحديات التي واجهتها في الأشهر المنصرمة، ظلت راسخةً لم يتطرق إليها الوهن، وما برحت علی أعلی درجات الجهوزية لمجابهة الصهاينة، وفي هذه المرة، إذا ما أقدم الکيان علی أي مغامرة طائشة، فسيتجرع کأساً مُرّة من التداعيات الوخيمة.
فحزب الله، في المواجهة الأخيرة مع الکيان، لم يکشف النقاب سوی عن جزء محدود من ترسانته العسکرية المتطورة، ملتزماً بنهج استراتيجي يهدف إلی احتواء دائرة التوتر في المنطقة، بيد أنه في هذه المرة، إذا ما تجرأت حکومة نتنياهو علی انتهاك السيادة اللبنانية، فإن مجاهدي المقاومة سيُلقنونها درساً لا يُمحی من الذاکرة.
وعلی النقيض من الأوهام الصهيونية، فإن حزب الله، حتی في أعقاب المستجدات علی الساحة السورية، يمتلك من المقومات والقدرات ما يؤهّله للدفاع عن أرضه بکل اقتدار، وهذا ما أکده بجلاء الشيخ نعيم قاسم في تصريحه البليغ: "المقاومة قوية وإمکاناتها متوافرة بکل زخم، فرغم عمق الجراح ووطأة الآلام، تظل معنوياتنا في أوجها، والأهم من ذلك کله أن مشروع المقاومة لم ولن ينکسر، إن قيادة المقاومة هي صاحبة القرار الحصري في تحديد توقيت المواجهة وکيفيتها، وهي من تقرر بحکمة أساليب المقاومة وطبيعة السلاح المستخدم".
بإقرار القيادات الصهيونية ذاتها، يمتلك حزب الله ترسانةً صاروخيةً ضخمةً تتجاوز عشرات الآلاف، تشمل منظومات فائقة الدقة وصواريخ کروز متطورة، والتي قد يعمد إلی توظيفها في المواجهات المرتقبة، فعلی الرغم من الطابع المحدود لعمليات حزب الله ضد الأراضي المحتلة، اضطر عشرات آلاف المستوطنين للنزوح من مساکنهم، وفي الأيام الختامية للمواجهات، وجد نحو مليوني صهيوني أنفسهم مجبرين يومياً علی الاحتماء في الملاجئ فزعاً من صواريخ المقاومة.
وعليه، فإن المواجهة المقبلة، مع امتداد نطاق الصواريخ المتطورة للمقاومة لتشمل کل الأراضي المحتلة، ستشهد تصاعداً دراماتيکياً في خسائر المحتلين، وستتحول الأراضي المحتلة من أقصی شمالها إلی أقصی جنوبها إلی مدن أشباح موحشة - مع اضطرار الصهاينة للاختباء في الملاجئ - علی غرار المشهد المهيمن حالياً في حيفا.
وعلی النقيض من تقديرات قادة تل أبيب، فإن الهجمات الإسرائيلية والتحولات في الساحة السورية لم تنل من عزيمة فصائل المقاومة، بل أثبتت هذه الفصائل أن متغيرات المنطقة لم تؤثر جوهرياً في بنيتها التنظيمية وقدراتها العسکرية، فها هي حرکة حماس، التي تبجح قادة الکيان بتدميرها في غزة، تستأنف في الأسبوعين المنصرمين، بعد إعادة هيکلة صفوفها، ضرباتها الصاروخية ضد الأراضي المحتلة، ما أثار هواجس حکومة نتنياهو وأرقها.
والحال لا يختلف مع حزب الله، الذي ارتقی إلی مستوی استثنائي من القدرة العسکرية يمکّنه من مجابهة الکيان، معتمداً علی ترسانته المصنعة محلياً دون الحاجة لأي دعم خارجي، حتی في ظل إغلاق محتمل لخطوط الإمداد عبر سوريا.
وثمة معطی جوهري آخر يتمثل في أن تجدد المواجهة بين حزب الله وجيش الاحتلال الصهيوني، سيستنفر حتماً سائر أرکان محور المقاومة، فها هو اليمن، الذي يُشکّل راهناً أکبر جبهة مناهضة للکيان الصهيوني في المنطقة، يواصل يومياً توجيه ضربات صاروخية ومسيّرة نوعية تستهدف مناطق شتی من الأراضي المحتلة، ما أثار حالةً من الهلع والذعر في أوساط الصهاينة.
وفي ظل المعادلة الجديدة التي فرضتها أنصار الله عبر استخدام منظومة متطورة من الصواريخ فرط صوتية المستعصية علی الاعتراض في عمق الأراضي المحتلة، فإن اندلاع المواجهة في لبنان سيدفعهم حتماً إلی تصعيد وتيرة عملياتهم وتوسيع نطاقها، الأمر الذي سيُکبد تل أبيب خسائر استراتيجية فادحة.
ومع تنامي الأصوات داخل الکيان الصهيوني ولبنان المنادية بضرورة الاستعداد لکل السيناريوهات المحتملة، يبدو جلياً أن الأيام العشرين المتبقية ستکون حاسمةً ومفصليةً لمستقبل اتفاق وقف إطلاق النار، والمشهد الأمني في المنطقة برمتها، فاستمرار المواجهات سيؤجج شرارة تصعيد خطير للتوترات الإقليمية، وسيرتد لهيب هذا التصعيد في المقام الأول علی الکيان الصهيوني نفسه.