الوقت- بعد سقوط حكومة بشار الأسد وصعود المعارضة المسلحة، كان الشعب السوري، انطلاقاً من شعارات ومواقف حكام دمشق الجدد، يأمل في الحفاظ على أمن المجتمع وانعدام الفوضى، واتجاه القوات المسلحة لتصفية الحسابات السياسية والعرقية والطائفية، لا يزال قليلاً، فمنذ أن وصلت هذه المجموعات إلى السلطة، نتيجة تصرفات هيئة تحرير الشام، تحول أمل الناس إلى يأس، كما شكك المجتمع الدولي في وعود قادة "تحرير الشام" بشأن طريقة الحكم في ظل غياب كل الأقليات السورية، بدأت تظهر هذه المخاوف الآن.
وفي الأيام الأخيرة، أصبحت الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة على الأقليات أمرًا روتينيًا، ورغم أن وسائل الإعلام العربية والغربية تحاول من خلال إظهار قادة هيئة تحرير الشام بالملابس المدنية وربطات العنق التظاهر بأن هؤلاء الأشخاص قد عادوا عن سياساتهم السابقة، وبعبارة أفضل، أصبحوا متحضرين، إلا أن الواقع على الأرض والأساليب الوحشية المنهجية للإرهاب والنهب والحرق، لا يمكن أن تخفي الحقيقة لفترة طويلة، ومع انتقال السلطة إلى فصائل المعارضة المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام ذات التاريخ التكفيري والمنبثقة عن تنظيم القاعدة، ومع الكشف عن حجم العنف والطائفية التي تمارسها هذه الفصائل، تشعر الأقليات الدينية في سوريا بقلق بالغ بشأن مستقبلها.
العلويون تحت مجهر تحرير الشام
أحمد الشرع الملقب بأبي محمد الجولاني يتحدث أمام عدسة كاميرا الإعلام الغربي عن الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات وحرمة الأماكن الدينية المقدسة، فيما العناصر التي تحت إمرته تتصرف بما يتعارض مع هذه الادعاءات، وكما كان متوقعاً، كان العلويون هم الأقلية الأولى التي سلّمت عليها الجماعات المسلحة بسيوفها الحادة.
وفي هذا الصدد، هاجم عدد من عناصر هيئة تحرير الشام، يوم الأربعاء (الـ5 من كانون الثاني/يناير)، مرقد أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، المرجع الأول للعلويين في العالم، أثناء إشعال النار في هذا الضريح المقدس، لدى العلويين، وقتلوا 5 من الخدم المتمركزين في الضريح.
في أعقاب هذا العمل الإجرامي الذي ارتكبه أعضاء هيئة تحرير الشام، هاجم العلويون الغاضبون محافظة طرطوس، كما واصل المتظاهرون احتجاجاتهم في مناطق أخرى من سوريا مثل دمشق وحمص، وكانت هذه أول احتجاجات علوية ضد الجماعات المسلحة بعد سقوط بشار الأسد.
وعقب هذه الاحتجاجات، نشرت إحدى وسائل الإعلام المقربة من هيئة تحرير الشام مقطع فيديو وكتبت فيه أن قواتها تقوم بتطهير اللاذقية وطرطوس من خلال أسر 100 شخص من "قوات الأسد".
وقامت قوات تحرير الشام بتعذيب وإذلال العلويين من خلال وصفهم بـ "الخنازير" و"الكلاب" وتبرير لعبهم دوراً في الاضطرابات، وقال ممثل العلويين المحتجين خلال التظاهرة خلف المنبر: "نحن ثاني أكبر ديانة في سوريا ولن نسمح بفرض ضغوط دينية وعنصرية علينا وعلى الرجال المسلحين لمهاجمة نسائنا".
العنف ضد الأقلية المسيحية
ولم يقتصر التشدد مع الأقليات في الأيام الأخيرة على العلويين فحسب، بل احتجت الأقليات الدينية الأخرى أيضًا على المعاملة غير اللائقة لجنود هيئة تحرير الشام، وفي هذا الصدد، قام بعض عناصر هيئة تحرير الشام بإحراق شجرة عيد الميلاد في مدينة حماة الأسبوع الماضي، وزعمت هيئة تحرير الشام أن منفذي حرق شجرة الميلاد هم من فلول النظام السابق من أجل تبرئة أنفسهم، إلا أن أهالي المنطقة صوروا الحادثة بهواتفهم وأكدوا أن أعضاء الهيئة هم من أشعلوا النار في شجرة الميلاد وكان في مدينتهم أعضاء في هيئة تحرير الشام، وهم من الأوزبك ومن جنسيات أجنبية.
حرق شجرة الميلاد ليس الحادثة الوحيدة من سلسلة الحوادث التي أصبحت تقلق الشعب السوري نتيجة تصرفات المجموعات المسلحة، بل اقتحام المنازل ومصادرة الممتلكات والسيارات الخاصة، مشاهد التعذيب والإذلال التي يتعرض لها جنود الجيش السوري هي أيضاً من الأمور التي تثير القلق مقارنة بما تقوم به المعارضة في سوريا، ومن ناحية أخرى، فإن الصراعات الطائفية واضطهاد الفتيات دون غطاء قانوني منذ سقوط النظام السابق، فضلاً عن إطلاق النار على المدنيين في الشوارع لإثارة الرعب، أثار قلق الناس بشكل كبير بشأن تصرفات الجماعات المتمردة.
أمن المجتمع تحت غطاء اعتقال عناصر النظام السابق
ويبدو أن هيئة تحرير الشام التي تسعى إلى تعزيز هيمنتها على سوريا، تسعى إلى تأمين أوضاع المجتمع من أجل القضاء على أي تهديد خطير لمستقبل حرانها في مهدها، وتنفذ هذه السياسة بحجة اعتقال عناصر وقيادات سياسية وعسكرية تابعة للحكومة السابقة، وفي هذا الصدد، أنشأت هيئة تحرير الشام تنظيمها الأمني الخاص في خطواتها الأولى لبناء مؤسسة جديدة. ونفذت قوات الأمن السورية، السبت، عمليات واسعة في محافظتي اللاذقية وطرطوس، زاعمة أنها تلقت تقارير عن وجود عناصر تابعة لفلول النظام السابق.
كما أعلن التنظيم الأمني الجديد التابع لإدارة القوات المسلحة والذي يسمى جهاز الأمن العام السوري، اعتقال اللواء حسين جمعة قائد شرطة حماة في حكومة الأسد، وزعمت الحكومة المؤقتة أنه تم الاستيلاء على عدد من الأسلحة من أشخاص تابعين للحكومة السابقة.
وفي مناطق أخرى، تم تكثيف عملية تطهير فلول النظام السابق من أجل إبعاد قوات الجيش عن الطريق وتمهيد الطريق لتشكيل القوات المسلحة، وقالت إدارة العمليات السورية إن مهلة تسليم سلاح القوات الموالية للأسد انتهت، ومن لا يسلم سلاحه فهو مخالف للقانون.
وكما يبدو من محتوى بعض وسائل الإعلام، فإن العناصر التابعة للجماعات المسلحة، من خلال خلق حالة من الفلتان الأمني في بعض ساحات المدينة ونشر مقاطع الفيديو الخاصة بها، تحاول تصوير هؤلاء الأشخاص على أنهم فلول النظام السابق وجعل أوضاع البلاد أكثر سوءا، وبهذه الطريقة يمكنهم اعتقال قوات الجيش.
وشكل العلويون العمود الفقري للقوة البشرية للجيش في حكومة الأسد، وكان الجيش السوري هو حامي سلامة الأراضي السورية ضد النظام الصهيوني والجماعات الإرهابية في العقود الماضية، من المؤكد أن إخراج العلويين من الجيش السوري سيضعف القدرة الدفاعية لسوريا بشكل كامل، لذا تظهر تصرفات هيئة تحرير الشام أن هذه المجموعة، على عكس الادعاءات الواضحة بأنها مستعدة للدفاع عن الأراضي السورية، تعمل كوكيل وتتماشى مع مصالح الكيان الصهيوني وتركيا.
وعادة ما يقوم عناصر هيئة تحرير الشام بتصوير أنفسهم والتباهي بهذه الانتهاكات المزعومة، وهو ما يعني بالنسبة للسوريين، حسب الخبراء، أمرين: الأول، أن الجولاني ليس لديه سيطرة على الجماعات المسلحة وأن هذه الفصائل الآن تتصرف كما تريد، أو أن خطة الحكومة المؤقتة تقوم على الخطاب المزدوج ولا تتم إلا من أجل الديماغوجيا والشرعية الإقليمية والدولية للنظام الجديد، وسياسة القمع وستتم ملاحقة الأقليات بشكل مكثف في المستقبل.
تحاول السلطات الجديدة في دمشق طمأنة الأقليات في بلد يمثل قوس قزح من التنوع العرقي والديني بأن الحكومة المقبلة ستتصرف دون أي تمييز، لكن تصرفات هيئة تحرير الشام والجماعات المسلحة الأخرى في الأيام الأخيرة أثبتت ذلك، حيث لم يطرأ أي تغيير على أفكار وأيديولوجية هذه الجماعات، وإذا تولت السلطة رسمياً فإنها ستتبع نفس الأفكار السلفية والتكفيرية.
عواقب العنف ضد الأقليات الدينية
تصرفات الجماعات المتمردة ضد الأقليات الدينية، وخاصة العلويين والمسيحيين، في حين أن هذه الأقليات كبرت وتقدمت ليس فقط في الجيش، ولكن أيضًا في البنية البيروقراطية والنظام الأكاديمي والعلمي في سوريا، وكذلك في الميدان والفن، وخلال العقود الخمسة الماضية، وجدت هذه الأقليات دورًا أساسيًا ولا مفر منه في العملية السياسية والبيروقراطية في البلاد، ولذلك فإن محاولة هيئة تحرير الشام عزل الأقليات ستؤدي فعلياً إلى خلل في دورة الحكم والبيروقراطية والاقتصاد والرياضة والثقافة وغيرها، وستحدث أزمة الكفاءة والشرعية أكثر فأكثر.
ورغم أن الدول العربية والغربية التي كانت داعمة للفصائل المتمردة، قد يئست من قمع العلويين بهدف إضعاف أسس المقاومة في سوريا، إلا أن أعمال العنف والقتل هذه، إذا استمرت وتوسعت، لن تكون كذلك، دون تكاليف وعواقب على هيئة تحرير الشام والجماعات المتحالفة معها.
إن استمرار أعمال العنف هذه من شأنه أن يثير غضب الأقليات في جميع أنحاء سوريا، ومع اشتداد الاحتجاجات، سيتم بناء الحكومة الجديدة منذ البداية على أسس هشة، والتي لن تدوم طويلاً، حتى أن بعض الخبراء يعتقدون أن هذه التصرفات التي تقوم بها هيئة تحرير الشام قد تعمق العلاقة بين العلويين في سوريا وتركيا وتكون مكلفة للحكومة المؤقتة في سوريا وحتى لتركيا.
ومن ناحية أخرى، أظهرت تجربة السنوات الثلاث الأخيرة في أفغانستان أن المجتمع الدولي جعل من ضمان حقوق الأقليات ومشاركتها الحقيقية في السلطة شرطاً أساسياً لقبول شرعية حكومة طالبان وحتى رفع العقوبات عنها، والإجراء نفسه ينطبق أيضاً على الحكومة الجديدة في دمشق، وهو أمر متوقع، والدول تنظر إلى سلوك المسلحين، ولا يمكن أن تكون الشعارات الفارغة أساساً لقرارات الحكومات.
وفي هذه الأثناء، فإن التعاون مع الاحتلال الأجنبي، بالتوازي مع تكثيف القمع الداخلي، يعزز بشكل متزايد إمكانية توسيع تحالف قوى المقاومة ضد النظام الجديد، وحسب قادة محور المقاومة، فإن شباب سوريا سيحرر بلادهم من الجماعات المتمردة ذات الأفكار السلفية، كما قام الشعب السوري، بصمت في محافظتي درعا والقنيطرة، بتشكيل حكومة مؤقتة ونظموا احتجاجات ضد عدوان العدو الصهيوني.