الوقت - لقد كانت عملية "طوفان الأقصى" البطولية في أواخر عام 2023، برهاناً ساطعاً كشف للعالم أجمع الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني المتوحش والإجرامي، ومن هنا، يمكننا القول - وبكل يقين - إن عام 2024 شهد إبادةً جماعيةً ممنهجةً، نفّذها هذا الكيان المصطنع المحتل ضد شعب يقطن بقعةً جغرافيةً محدودةً تُدعى غزة.
وفي السياق ذاته، كانت عملية "طوفان الأقصى" شاهداً حياً على مقاومة باسلة لشعب واجه - بإمكانات متواضعة - آلةً عسكريةً صهيونيةً تحظى بدعم لا محدود من القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من فداحة المآسي والمحن غير المسبوقة في تاريخ البشرية، فقد استطاع هذا الشعب الصامد أن يحبط المخططات الشريرة لعدوه، ويفشل مآربه الخبيثة.
افتتح عام 2024 صفحاته على وقع صمود المقاومة الفلسطينية الباسلة في وجه العدوان الهمجي، الذي شنّه الكيان المحتل على قطاع غزة، فبالرغم من محاولات الصهاينة المحمومة لطمس القضية الفلسطينية واجتثاث غزة من جذورها ومحو كل نبض للحياة فيها، ظلت شعلة المقاومة متقدةً لم تخبُ.
الحراك العالمي المناهض للصهيونية في 2024
شكّل عام 2024 منعطفاً تاريخياً في مسار العدالة الدولية، إذ شهد تقديم أول دعوى قضائية دولية ضد الكيان الصهيوني، حيث وُضع "بنيامين نتنياهو" رئيس حكومة الاحتلال وشريكه في الإجرام "يوآف غالانت" وزير حربه السابق في قفص الاتهام الدولي، بجرائم الإبادة الجماعية ضد أهالي غزة، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق هؤلاء المجرمين، مطالبةً بتقديمهم للعدالة.
مثل هذا التطور النوعي، انعطافة تاريخية فتحت الباب على مصراعيه أمام مسار قانوني دولي لمحاسبة الصهاينة، فلأول مرة في التاريخ، يجد هذا الكيان نفسه - الذي طالما تمتع بحصانة مطلقة على مدى عقود بفضل المظلة الأمريكية والغربية - في قائمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب.
کما تميّز العام بانطلاق حراك عالمي استثنائي، تجلى بشكل خاص في الساحة الأوروبية، حيث قاد طلاب الجامعات في أوروبا وأمريكا موجة احتجاجات غير مسبوقة ضد جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وشهد حرم الجامعات الأمريكية تظاهرات حاشدة مناهضة للكيان الصهيوني، کذلك، تشكلت حركة عالمية واسعة النطاق لمقاطعة الكيان الصهيوني وكل المؤسسات والشركات المتواطئة معه، في خطوة تاريخية تعد الأولى من نوعها.
وهكذا تهاوت أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وتساقطت الروايات المزيفة التي روّج لها الصهاينة وحلفاؤهم على مدى سبعة عقود ونيف، وأدرك الرأي العام العالمي، للمرة الأولى بهذا الوضوح، حقيقة المأساة الفلسطينية وجوهر الصراع على أرض فلسطين التاريخية.
ملحمة المقاومة الفلسطينية في وجه جرائم المحتلين
شهد العام المنصرم 2024 فصلاً دامياً غير مسبوق في تاريخ الصراع، حيث خاض الكيان الصهيوني أطول حروبه الوحشية، مرتكباً جرائم حرب مروعة تحت مظلة دعم غربي-أمريكي مطلق، وعلى الرغم من الإمداد العسكري الأمريكي اللامحدود للكيان، ولا سيما في مجال القوة الجوية، إلا أن قوات الاحتلال تكبدت خسائر استراتيجية فادحة براً وجواً - خسائر تتكتم عليها الرقابة العسكرية المشددة على وسائل الإعلام العبرية بصرامة بالغة.
وفي مشهد يتكرر بوتيرة درامية، كان الکيان الصهيوني يزعم في كل توغل بري في قطاع غزة أنه قد أحكم قبضته على المقاومة، ليفاجأ بظهور المقاومين الأشاوس في ذات المناطق التي ادعى تطهيرها، وقد برهنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، رغم استشهاد قامات قيادية فذة كالشهيد "إسماعيل هنية" والشهيد "يحيى السنوار"، على قدرة استثنائية في الحفاظ على زخم عملياتها النوعية وفعاليتها القتالية، مواصلةً ضرباتها المؤثرة براً وجواً ضد الکيان، متمسكةً بثوابتها دون أدنى تنازل.
أما على الصعيد السياسي، فقد شهد العام محاولات حثيثة للتوصل إلى هدنة إنسانية في غزة، غير أن الكيان المحتل، مستنداً إلى الدعم الأمريكي المطلق، ما زال يتعنت في رفض أي وقف لإطلاق النار، ما أفضى إلى سقوط عدد ملموس من أسراه في غزة جراء استمرار عدوانه الهمجي على القطاع.
ولقد مثّل عام 2024 فصلاً مأساوياً من الإبادة الممنهجة والتصفية التدريجية للشعب الفلسطيني، في ظل تواطؤ عربي رسمي مخزٍ وصمت مطبق، ورغم تدمير كل مقومات الحياة في غزة - صحياً وغذائياً وتعليمياً - إلا أنه شكّل في المقابل ملحمةً تاريخيةً في مقارعة الظلم، حيث سطّر الشعب الفلسطيني بكل شرائحه - من الأطفال إلى القادة، ومن الأطباء إلى المسعفين والإعلاميين - أروع صور البطولة والفداء، المحفورةً بأحرف من نور في سجل التاريخ المعاصر.
عام الأسرى والإعلاميين في فلسطين
يُسجل التاريخ عام 2024 بمداد من دماء الأسرى الفلسطينيين، في فصلٍ يُعد الأكثر قتامةً في سجل الاعتقالات الصهيونية، فقد شهد هذا العام حملة اعتقالات غير مسبوقة، عكست نهجاً ممنهجاً في التنكيل والانتقام، حيث مارس المحتل الصهيوني أبشع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، في انتهاك صارخ لكل المواثيق والأعراف الدولية.
وفي إحصائية صادمة كشف عنها نادي الأسير الفلسطيني، أقدم كيان الاحتلال على تجديد الاعتقال الإداري التعسفي لعشرة آلاف أسير فلسطيني، في حين تجاوز عدد المختطفين الجدد خلال العام المنصرم ثمانية آلاف مواطن فلسطيني، وفي مشهد يدمي القلوب، ارتقى خمسة أسرى شهداء خلال أربع وعشرين ساعة فقط مطلع الأسبوع الجاري في غياهب سجون الاحتلال - وهم من بين المختطفين من شمال قطاع غزة إبان حملة التطهير العرقي المستعرة.
أما على صعيد العمل الإعلامي، فقد شكّل عام 2024 منعطفاً مأساوياً غير مسبوق في تاريخ الصحافة بفلسطين المحتلة، فقد تعمد الكيان الصهيوني استهداف الحقيقة بقتل حامليها، في محاولة يائسة لطمس جرائمه وإخفاء بشاعة عدوانه عن أعين العالم.
ففي حصيلة مروعة، تجاوز عدد شهداء الكلمة الحرة المئتين من الصحفيين والإعلاميين، جراء القصف المتعمد للمنشآت المدنية في غزة، وقد أصدر الاتحاد الدولي للصحفيين في بروكسل بياناً شديد اللهجة يدين فيه الاستهداف المنهجي للصحفيين في غزة، واصفاً عام 2024 بأنه الأكثر دمويةً في تاريخ العمل الصحفي بفلسطين.
وفي مشهد يتكرر بوتيرة متصاعدة، يواصل الكيان ارتكاب جرائمه الوحشية في غزة، مستهلاً عام 2025 بسلسلة غارات همجية على مختلف أرجاء القطاع المحاصر، بيد أن تصاعد وتيرة الإجرام الصهيوني قوبلت بصمود فلسطيني أسطوري، مع تحول نوعي في الوعي العالمي تجاه الطبيعة الإجرامية للكيان المحتل.
يحيى السنوار: البطل الذي فضح الصهاينة حتى بعد استشهاده
لقد سعى الكيان الصهيوني بكل ما يملك من أدوات التضليل الإعلامي إلى تشويه صورة قامات المقاومة الفلسطينية الشامخة، وفي طليعتهم القائد الفذ يحيى السنوار، مروِّجاً لسردية مفبركة عن اختبائه في دهاليز غزة، غير أن المشهد الأخير لهذا القائد - وهو يخوض معركته النهائية بعصا خشبية في مواجهة آلة الحرب الصهيونية - قد تحول إلى لوحة خالدة في ضمير الإنسانية، وأيقونة للفداء يستلهم منها أحرار العالم دروس العزة والكرامة.
وفي مفارقة تاريخية صارخة، كان نتنياهو يغرق في أوهام النصر المزعوم، ناسجاً في مخيلته المريضة سيناريو القبض على السنوار في الأنفاق، ثم إخراجه في مشهد مذل، ليُعرض في محاكمة استعراضية أمام عدسات الكاميرات، في مسرحية قضائية مطولة، تنتهي بإعدامه وإحراق جثمانه وتذرية رماده في أمواج البحر.
غير أن القدر رسم مشهداً مغايراً تماماً لهذه الأوهام الصهيونية، فارتقى السنوار شهيداً في ملحمة أسطورية، مشتبكاً وجهاً لوجه مع عصابات الإجرام الصهيوني، ليسقط بشهادته المهيبة كل الافتراءات الوضيعة عن تخفيه في الأنفاق، أو اتخاذه المدنيين دروعاً بشريةً.