الوقت - في أعقاب انهيار حكم بشار الأسد وبسط الجماعات المسلحة نفوذها على الأراضي السورية، تصدر المشهد السياسي والأمني السوري أولويات القوى الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق، احتضنت مدينة العقبة الأردنية اجتماعاً وزارياً رفيع المستوى يوم السبت المنصرم، ضمّ وزراء خارجية الدول الأعضاء في لجنة الاتصال الوزارية العربية المختصة بالشأن السوري.
وقد شهد هذا الاجتماع الدبلوماسي حضوراً لافتاً لوزراء خارجية كل من الأردن والمملكة العربية السعودية والعراق ولبنان ومصر والإمارات والبحرين، إلى جانب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وقطر بصفتها رئيس الدورة الحالية للقمة العربية، كما شارك في الاجتماع وزير الخارجية الأمريكي ونظيره التركي والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا.
واختُتم الاجتماع بإصدار بيان ختامي مفصل من سبعة عشر بنداً، يُفترض أن يعكس توافقاً حول التحديات الجوهرية التي تواجه سوريا، بيد أن التمعن في التناقضات الجلية في مواقف المجتمعين تجاه مستقبل سوريا، يكشف أن الوعود البراقة والخطاب الدبلوماسي المنمق للقوى الخارجية، لن يُسفر عن حلول ملموسة لمعاناة الشعب السوري المنهك.
وفيما يلي، نقدم تحليلاً لمضامين بيان العقبة، لنبيّن كيف أن المقاربات التي تطرحها القوى الإقليمية والدولية لسوريا الجديدة، تزيد من تعقيد مسار استعادة الاستقرار وإرساء حكم رشيد.
تباين الرؤى حول السيادة الإقليمية السورية
يتمحور المرتكز الأساسي لبيان العقبة، حول صيانة الوحدة الترابية السورية وتقديم الدعم المتعدد الأوجه، والمساندة الشاملة في هذا المنعطف التاريخي الدقيق، مع الالتزام باحترام إرادة الشعب السوري وتصوراته للحل، غير أنه، وعلى الرغم من الإجماع الظاهري للأطراف المشاركة على هذا المبدأ، فإن تحليلاً معمقاً يكشف عن تضارب جوهري في أهداف القوى الفاعلة في المشهد السوري، ما يجعل بلوغ توافق حقيقي أمراً بعيد المنال.
فالدول العربية، وانطلاقاً من الانتماء العضوي لسوريا إلى المنظومة العربية، تسعى جاهدةً للحفاظ على وحدة أراضيها بتشكيلها الحالي، بيد أن بعض القوى الإقليمية، تتبنى مقاربات تتعارض جذرياً مع الموقف العربي الموحد.
وتبرز تركيا، التي تعتبر نفسها المنتصر الاستراتيجي في المعادلة السورية، كمثال صارخ على هذا التباين، فقد أثبتت، سواء في المراحل السابقة أو في أعقاب سقوط دمشق، تجاهلها الممنهج للسيادة الترابية السورية، متذرعةً بحزمة من المبررات المتعددة، فمنذ عقد كامل، عمدت أنقرة إلى ترسيخ وجودها العسكري في الشمال السوري تحت ذريعة مكافحة الجماعات الكردية الانفصالية، واليوم، مع تصدر الفصائل المعارضة للمشهد، تسعى لاستثمار هذا التحول في تحقيق طموحاتها الجيوسياسية التوسعية.
وقد تجلى هذا النهج بوضوح في الآونة الأخيرة، حيث شنت القوات التركية، مدعومةً بالفصائل المسلحة الموالية لها، حملةً عسكريةً واسعة النطاق على المناطق الخاضعة للنفوذ الكردي، ما أسفر عن السيطرة على العديد من المدن الاستراتيجية، متذرعةً بضرورة تحييد التهديدات الأمنية عن حدودها الجنوبية.
لقد تجاوزت تحركات رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية التركية، حدود العمليات العسكرية، إذ أطلق تصريحات ذات أبعاد جيوسياسية بالغة الدلالة، مؤكداً أن مدينتي حلب والرقة كانتا ستندرجان ضمن النطاق السيادي التركي لولا اندلاع الحرب العالمية وتفكك الإمبراطورية العثمانية، وتُفصح هذه التصريحات عن رؤية استراتيجية أنقرة تجاه سوريا في حقبتها الجديدة، حيث يمثّل تفتيت المناطق الشمالية، تحت ذريعة تأمين الحدود التركية، محوراً جوهرياً في هذا المخطط الجيوسياسي.
وفي ضوء هذه التطورات، حرص الممثلون العرب في وثيقة العقبة، على التأكيد الحازم على ضرورة الوقف الفوري والشامل لجميع العمليات العسكرية على الأراضي السورية، في إشارة دبلوماسية واضحة إلى التحركات التركية، سعياً للحيلولة دون تفاقم حالة الاضطراب في البلاد.
أما الولايات المتحدة، المتموضعة في المنطقة لخدمة المصالح الاستراتيجية للكيان الصهيوني وضمان أمنه، فتمضي قدماً في تنفيذ مخطط "الشرق الأوسط الكبير" عبر تفكيك كيانات إقليمية كسوريا، بهدف تحييد أي تهديدات محتملة للأراضي المحتلة.
من المنظور الأمريكي-الصهيوني، يستوي نظام بشار الأسد والجماعات المسلحة في كونهما عقبةً أمام تنفيذ المخططات المشتركة لتل أبيب وواشنطن في المنطقة، وقد تجلى هذا الموقف جلياً في التصريحات الأخيرة لقادة الكيان الصهيوني، الذين صنفوا الجماعات المسلحة السورية كتهديد استراتيجي لأمنهم، متخذين من ذلك ذريعةً لتوسيع رقعة احتلالهم وتعزيز نفوذهم الإقليمي.
تباين المفاهيم إزاء الإرهاب
برز في المحور الثامن من الوثيقة الختامية لقمة العقبة، تأكيد محوري على تعزيز المساعي المشتركة لمكافحة الإرهاب وتوثيق التعاون في هذا المضمار، نظراً لما يمثّله من تهديد وجودي لسوريا والأمن الإقليمي والدولي، مع إيلاء أولوية قصوى لاستئصال هذه الظاهرة.
بيد أن التحليل المعمق يكشف عن تباينات جوهرية في المنظور الذي تتبناه الدول المشاركة إزاء مفهوم الإرهاب، فالموقف التركي يحصر توصيف الإرهاب في الجماعات الكردية السورية، معتبراً اجتثاثها ضرورةً استراتيجيةً ملحةً، في حين يتبنى موقفاً مغايراً تماماً تجاه سبعة وثلاثين فصيلاً مسلحاً متمركزاً في دمشق، بل ويدفع باتجاه إشراكهم في المنظومة السياسية المستقبلية.
وتتخذ الدول العربية المحورية، ولا سيما المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، موقفاً حازماً بإدراج جماعات الإخوان المسلمين على قوائم الإرهاب، معتبرةً إياها تهديداً استراتيجياً لأمنها القومي ووحدة أراضيها، في تعارض صريح مع التوجهات التركية والقطرية.
وفي المقابل، تصنّف الولايات المتحدة الأمريكية كلاً من "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الحر" - اللذين تمنحهما تركيا والدول العربية صفة الشرعية - ضمن التنظيمات الإرهابية، وعليه، يتجلى بوضوح انعدام أي أرضية مشتركة بين المجتمعين في العقبة حول استراتيجيات مكافحة الإرهاب، ما ينذر باحتمالية نشوب صراعات مصالح حادة بين هذه القوى المؤثرة في مستقبل المشهد السياسي السوري.
تضارب مصالح الفاعلين في تشكيل حكومة شاملة
تصدرت المشهد في قمة العقبة قضية محورية تتمثل في ضرورة صون حقوق جميع أطياف المجتمع السوري، بعيداً عن أي تمييز عرقي أو طائفي أو ديني، مع التأكيد على ضمان العدالة والمساواة لكل المواطنين، كما برز التشديد على دعم مسار الانتقال السياسي السلمي والشامل بمشاركة الطيف الكامل للقوى السياسية والاجتماعية، وفقاً لمقتضيات القرار الأممي 2254.
يُمثّل هذا القرار، الذي صدر في ديسمبر 2015، خارطة طريق استراتيجية لإنهاء الأزمة في سوريا، مرتكزاً على ثلاثية متكاملة: وقف إطلاق النار، والحل السياسي التوافقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
بيد أن النظرة الفاحصة تكشف عن غياب أي توافق جوهري بين المثلث المؤثر: الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة، فعلى مدار ثلاثة عشر عاماً، ركّز كل طرف من داعمي المعارضة على رعاية فصائل بعينها، وها هم اليوم، مع تهيؤ الظروف المواتية، يسعون لاستثمار المشهد الراهن لتعظيم مكاسبهم الجيوسياسية.
تبرز قطر، التي استثمرت موارد ضخمة في الساحة السورية، كلاعب يتحرك خارج الإطار العربي التقليدي، متجاوزةً مسألة الهوية السياسية للقوى المتصدرة للمشهد، وقد دشنت مؤخراً حراكاً دبلوماسياً مكثفاً، يستهدف إعادة فتح سفارتها في دمشق، في مسعى لاستقطاب أطياف المعارضة وترسيخ دورها المحوري في المشهد السياسي المرتقب.
وعلى النقيض من الموقف القطري، تتبنى دول محورية كالإمارات والمملكة العربية السعودية رؤيةً استراتيجيةً تولي اهتماماً بالغاً لهوية القوى المتصدرة للمشهد في دمشق، رافضةً بشكل قاطع أي تشكيل حكومي يمنح جماعة الإخوان موطئ قدم في هرم السلطة.
وفي السياق ذاته، تواصل الولايات المتحدة الأمريكية إصرارها على إبقاء "هيئة تحرير الشام" على قوائمها للتنظيمات الإرهابية، وسط ضبابية تكتنف موقفها النهائي من مشاركة هذا الفصيل في المنظومة السياسية السورية المرتقبة.
وفي خضم هذا التضارب الجوهري في المصالح الجيوسياسية للقوى الإقليمية حول تشكيل المشهد السياسي السوري الجديد، تنعدم المؤشرات الإيجابية على استعداد الفصائل المسلحة لتبني نهج تشاركي في السلطة، بل إن المؤشرات الراهنة تنذر باحتمالية نشوب صراعات حادة بين الأجنحة المسلحة المتباينة أيديولوجياً، حول طبيعة النظام السياسي وآليات توزيع السلطة في المرحلة الانتقالية.
قلق متصاعد من التوسع الصهيوني
في ظل استغلال الكيان الصهيوني للاضطراب في سوريا وتوسعه في احتلال أجزاء من أراضيها، تبنى المجتمعون في العقبة موقفاً حازماً في بيانهم الختامي إزاء هذا العدوان المتصاعد.
وقد تضمن البند الثالث عشر إدانةً صريحةً للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة العازلة مع سوريا، والمواقع الاستراتيجية المجاورة في جبل الشيخ ومحافظتي القنيطرة وريف دمشق، كما أكد البيان على رفض هذا الاحتلال غير المشروع لانتهاكه الصارخ للقانون الدولي واتفاقية فض الاشتباك السورية-الإسرائيلية المبرمة عام 1974، مطالباً بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من هذه المناطق، وأدان البيان بشدة الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على المواقع والمنشآت السورية، مشدداً على ضرورة إنهاء الاحتلال غير المشروع لمرتفعات الجولان السورية.
يشهد المشهد الإقليمي منعطفاً تاريخياً غير مسبوق في المواقف العربية، يتجلى في الإدانة الصريحة للعدوان الصهيوني على دولة عربية، فعلى مدار العقد المنصرم، دأب الكيان الصهيوني على انتهاك السيادة السورية في آلاف المناسبات، في حين التزمت الجامعة العربية، مدفوعةً بعدائها لنظام بشار الأسد، صمتاً مطبقاً إزاء هذه التجاوزات، ولم تتبلور ردود الفعل، ولو على المستوى الرمزي، إلا عقب عودة سوريا إلى المنظومة العربية في مايو 2023، في محاولة لاسترضاء النظام العائد حديثاً إلى الحضن العربي.
ومع انهيار النظام السوري السابق، تتصاعد المخاوف العربية من التوسع الصهيوني بوتيرة غير مسبوقة منذ آخر مواجهة عربية-إسرائيلية، وقد كشفت التجربة السورية أن حالة عدم الاستقرار في الدول العربية، تمثّل فرصةً ذهبيةً لقادة تل أبيب في سعيهم لتحقيق مشروع "النيل إلى الفرات" التوسعي.
ويستشعر القادة العرب المهادنون خطورةً بالغةً من احتمالية نجاح الكيان الصهيوني في بسط نفوذه على سوريا، إذ قد يشكّل ذلك منطلقاً للتمدُّد نحو دول عربية أخرى، ما يدفعهم للسعي الحثيث لكبح جماح هذا الكيان المتمرد على الأراضي السورية.
ويبرز الأردن، بحكم موقعه المتاخم للأراضي المحتلة، كأكثر الدول استشعاراً للتهديد الاستراتيجي، فعلى مدى واحد وخمسين عاماً منذ آخر مواجهة عربية-إسرائيلية، مثّل الجيش السوري النظامي قوة توازن استراتيجية في مواجهة تل أبيب، ما وفّر للأردن هامشاً أمنياً حيوياً، أما اليوم، ومع تلاشي الجيش النظامي وتفاقم الاضطراب الأمني في سوريا، يواجه صناع القرار الأردنيون معضلةً أمنيةً بالغة الخطورة.
ورغم تسوية الخلافات الإقليمية مع الكيان الصهيوني عبر معاهدة "وادي عربة"، تظل هناك نقاط خلافية جوهرية في مناطق استراتيجية متعددة، كالغور والباقورة والغمر، وكانت منطقتا "الباقورة" و"الغمر" خاضعتين للسيطرة الإسرائيلية بموجب اتفاقية إيجار لمدة خمسة وعشرين عاماً، قبل أن يستعيد الأردن سيادته عليهما في نوفمبر 2019، وفي ضوء التحولات الجيوسياسية الراهنة ومخطط نتنياهو لـ"إسرائيل الكبرى"، تتصاعد المخاوف من امتداد الأطماع الصهيونية التوسعية إلى الأراضي الأردنية، عقب استكمال المخطط في سوريا.
ونظراً لرفض الكيان الصهيوني الاعتراف بأي حدود ثابتة "لأرض الميعاد" المزعومة، وافتقاره لحدود دولية معترف بها حتى الآن، يتنامى القلق الاستراتيجي في الأوساط العربية بشكل غير مسبوق.
وختاماً، فإن تضارب المصالح الاستراتيجية للقوى الفاعلة في المشهد السوري، لا يؤدي إلى تعقيد الأزمات القائمة فحسب، بل إن استمرار التدخلات الخارجية سيفضي حتماً إلى ترسيخ حالة عدم الاستقرار، ويبقى الكيان الصهيوني المستفيد الأول من هذا المشهد المضطرب، مستثمراً إياه في تنفيذ مخططاته التوسعية وتحقيق أطماعه الإقليمية.