الوقت – ذکرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية أنه على الرغم من فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، فإن طموحات "إسرائيل" في الاستفادة من دعمه المطلق لإعادة تشكيل خارطة القوى الإقليمية، تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.
وتلفت "فورين أفيرز" الأنظار إلى أن نتنياهو، بعد ثلاثة عشر شهراً من الصراع الدامي في غزة والمواجهة المستمرة مع حزب الله، يتصور نفسه في موقف أكثر قوةً على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتسعى حكومته، مدفوعةً بدعم قوي من التيار اليميني المتطرف، إلى تحقيق ما يطلق عليه "النصر الكامل" - وهو مفهوم يكتنفه الغموض ويفتقر إلى التعريف الدقيق.
وفي تقرير لها، كشفت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية عن المخطط الإسرائيلي الطموح لإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، مسلطة الضوء على التناقضات الجوهرية التي تعتري هذه الاستراتيجية:
إطالة أمد الصراع في غزة: تسعى "إسرائيل" إلى إدامة العمليات العسكرية في القطاع، مع التخطيط لوجود عسكري طويل الأمد في شماله، في محاولة لفرض واقع جديد على الأرض.
إعادة تشكيل المشهد اللبناني: تطمح تل أبيب إلى فرض نظام جديد على لبنان، يهدف إلى تقويض قوة حركات المقاومة في المنطقة.
عرقلة البرنامج النووي الإيراني: تواصل "إسرائيل" مساعيها لوضع العراقيل أمام البرنامج النووي الإيراني السلمي، في محاولة لتغيير موازين القوى الإقليمية.
تقويض حل الدولتين: يتطلع بعض أعضاء الائتلاف الحاكم إلى إنهاء فكرة حل الدولتين، بينما يركز نتنياهو على تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية.
الرهان على ترامب: يعول نتنياهو على دعم غير مشروط من ترامب بعد عودته إلى البيت الأبيض.
بيد أن المجلة تحذر من أن هذه الافتراضات حول القدرة العسكرية الإسرائيلية ومدى الدعم المحتمل من ترامب، مبالغ فيها بشكل كبير، فالنجاحات التكتيكية على أرض المعركة، دون رؤية سياسية ودبلوماسية بعيدة المدى، لن تفضي إلى أمن مستدام.
وتشير "فورين أفيرز" إلى مخاطر انزلاق "إسرائيل" إلى جبهات قتال متعددة، ما قد يضطرها لتحمل مسؤولية أعداد كبيرة من المدنيين في غزة ولبنان، كما تؤكد المجلة أن كسب تأييد العالم العربي، يتطلب إزاحة العناصر المتطرفة من الحكومة الإسرائيلية، وهو أمر يصعب تحقيقه دون أن يفقد نتنياهو السلطة.
مع ذلك، يتصوّر نتنياهو وحلفاؤه أن إدارة ترامب المستقبلية، ستقدّم دعماً غير مشروط للكيان الصهيوني، بيد أن الرغبة الأخيرة التي أبداها الصهاينة للتوصل إلى اتفاق مع حزب الله اللبناني، تشير إلى أن نتنياهو نفسه يدرك أن ترامب لن يُجاري المغامرات اللامتناهية لهذا الكيان في المنطقة، وفضلاً عن الجبهة اللبنانية، تُشكّل إيران مسرحاً آخر يُفضّل الكيان الصهيوني ألا يخوض غماره منفرداً، إذ يحتاج إلى الدعم الأمريكي.
تأمل حكومة نتنياهو في إرغام القوى الإقليمية الأخرى على التطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال تحقيق أهدافها الحالمة، بما فيها القضاء على حماس، وتحجيم حزب الله، واحتواء إيران!
ويتصور الصهاينة أنه في حال تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني، فإن الدول العربية الأخرى في المنطقة ستتسابق لإحياء علاقاتها مع تل أبيب، وعليه، يُصبح ترامب، الذي أقام علاقات وثيقة مع المملكة العربية السعودية خلال فترة رئاسته الأولى، ورقةً رابحةً للكيان الصهيوني.
لقد وصف نتنياهو ترامب بـ "أعظم صديق لإسرائيل"، ويتطلع الصهاينة إلى دعم غير مشروط من جانبه للكيان، وقد عزّز هذا التصور تعيينات ترامب لشخصيات موالية للکيان الصهيوني في مناصب استراتيجية، في المقابل، تنبع طموحات نتنياهو الجامحة من كون شركائه في اليمين المتطرف، ضمن الائتلاف الحاكم، لن يقبلوا بأقل من ذلك.
وفقاً لتقرير مجلة "فورين أفيرز"، فإن إصرار هؤلاء على أجندتهم المتطرفة - والتي تضمن استمرارية نتنياهو في سدة رئاسة الوزراء - قد أضحى عقبةً دائمةً أمام أركان المؤسسات الأمنية في الكيان المحتل، وهذه المؤسسات تدرك جيدًا أن استمرار العمليات الهجومية، يتعارض مع مصالح الكيان وقواته المسلحة، بل إن هذه العناصر المتطرفة قد تجاوزت الخطوط الحمراء، بمعارضتها حتى لمواقف أسر الأسرى الصهاينة.
منذ أشهر، ما فتئت هذه الأسر تناشد بإبرام اتفاقية لتحرير الأسرى الصهاينة، مستظلةً بدعم من الإدارة الأمريكية، بيد أن نتنياهو، متكئًا على جناحه اليميني المتطرف والعناصر المناهضة لشروط حماس لوقف إطلاق النار، نجح في تجاوز مقاومة ذوي الأسرى، ومع عودة ترامب إلى سدة الرئاسة، يستشرف نتنياهو تراجعًا في الضغوط الأمريكية على الكيان الصهيوني لوقف العمليات العسكرية وإطلاق سراح الأسرى.
غير أن تقرير فورين أفيرز يسلط الضوء على تغافل نتنياهو وحلقته الضيقة عن العقبات الجوهرية التي تعترض هذه المخططات الطموحة، وفي مقدمتها استحالة استئصال إيران وفصائل المقاومة في المنطقة.
فها هي حماس وحزب الله وأنصار الله في اليمن تبرهن على صمودها، وتعيد ترتيب صفوفها في الوقت الراهن، ولا تزال هذه القوى تمتلك ترسانةً ناريةً معتبرةً، تمكنها من استهداف الأراضي المحتلة يوميًا بوابل من الصواريخ والقذائف الباليستية والطائرات المسيّرة، وقد نجحت بالفعل خلال الأشهر المنصرمة في إثارة اضطرابات واسعة النطاق داخل الأراضي المحتلة، مجبرةً الصهاينة على الاحتماء بالملاجئ بصورة متواترة.
وكشفت "فورين أفيرز" عن حقيقةٍ تتمثل في استحالة تحقيق أي مشروع طموح للكيان الصهيوني دون دعمٍ محوري من واشنطن، مؤكدةً أن مجرد افتراض إمكانية استسلام هذه الفصائل، يُعدُّ ضرباً من السُّذاجة السياسية، وفي المشهد الراهن، يتجلى احتياج الكيان الصهيوني للدعم الأمريكي بصورةٍ غير مسبوقة، بيد أن الاعتقاد بأن هذا الدعم سيكون مطلقاً وغير مشروط، يُعدُّ وهماً لا أساس له من الواقع.
ويسلط التقرير الضوء على دلالةٍ لافتة تتمثل في إشادة ترامب بالناخبين من أصولٍ عربية وإسلامية ودورهم المحوري في نجاحه الانتخابي، ما قد يُشكّل مؤشراً جوهرياً على تحولٍ مرتقب في منظومة سياساته، وحين نضع في الاعتبار موقف ترامب المناهض للتورط الأمريكي المستمر في النزاعات العسكرية العالمية، يتضح جلياً أن الكيان المحتل قد لا يحظى بموقعٍ متقدم في سُلَّم أولويات إدارته المقبلة.
وفي سياقٍ متصل، شهدت نهاية ولاية ترامب الرئاسية الأولى توتراً ملحوظاً في علاقته مع نتنياهو، حيث عبَّر صراحةً عن رفضه لاستمرار الكيان الصهيوني في نهج المواجهة، وتجلى هذا الموقف بوضوح خلال لقائه مع نتنياهو في يوليو، حيث حثَّ رئيس وزراء الكيان على ضرورة إنهاء الصراع قبل انتهاء ولاية بايدن الرئاسية.
من جانبٍ آخر، قد يجد مناصرو التوسع الاستيطاني المُكثَّف للكيان الصهيوني في الضفة الغربية - وهم من أشدّ المؤيدين لترامب - أنفسهم أمام حقيقةٍ صادمة في المستقبل القريب، إذ يتضح لهم أن التزام ترامب بأجندتهم ومواقفهم، أقل بكثير مما كانوا يأملون.
إذ تُلقي التوجهات العامة لترامب في السياسة الخارجية، بظلالٍ من الشك والقلق على مستقبل الكيان الصهيوني، فقد أدلى بتصريحاتٍ لافتة للصحفيين في سبتمبر، مؤكداً على ضرورة توصل الولايات المتحدة إلى تفاهمٍ مع طهران، وعقب ذلك بشهر، أعلن عزمه الراسخ على "وضع حدٍ نهائي للمعاناة والدمار المستشري في لبنان".
وفي تطورٍ لافت، استلم الكيان الصهيوني مؤخراً منظومة صواريخ "ثاد" المتطورة المضادة للصواريخ الباليستية من الولايات المتحدة، مع استضافة مئة جندي أمريكي للإشراف على تشغيلها، وتُشير "فورين أفيرز" إلى أنه رغم استبعاد إقدام ترامب على سحب هذه الترسانة المتقدمة من الأراضي المحتلة، إلا أن نفوره الجلي من تخصيص القوات والموارد المالية الأمريكية خارج حدود الوطن، يُنذر بانحسارٍ محتمل في مستوى الدعم الأمريكي مستقبلاً، وهذا التحول الاستراتيجي من شأنه أن يضع قيوداً صارمةً على هامش المناورة العسكرية لجيش الكيان المحتل، ما قد يُفضي إلى تقليص نفوذه الإقليمي بشكلٍ ملموس.
من ناحية أخری، نجد أن القوى الأوروبية الكبرى - فرنسا وألمانيا وبريطانيا - التي آثرت الحياد إبان الهجوم الصاروخي الإيراني الثاني على الكيان الصهيوني في أكتوبر الماضي، قد اتخذت موقفًا أكثر صرامةً، فقد شرعت هذه الدول في تقييد صادراتها من الأسلحة إلى هذا الكيان، مبديةً قلقًا عميقًا إزاء مدى امتثاله للقوانين والأعراف الدولية.
وعلى الصعيد الدولي، نشهد تحركًا ملحوظًا من قبل المؤسسات العالمية البارزة، فالأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية - وهي هيئات طالما وقفت في وجه انتهاكات الكيان الصهيوني - قد صعّدت من ردود فعلها تجاه الممارسات الراهنة لهذا الكيان، وقد بلغ الأمر ذروته بإصدار المحكمة الجنائية الدولية، مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء نتنياهو ووزير حربه السابق "يوآف غالانت".
وتسلط "فورين أفيرز" الضوء على التداعيات الوخيمة المحتملة لهذه القيود، على حرية تحرك القوات العسكرية للكيان، في سعيه لتحقيق أجندة تل أبيب الإقليمية، وتخلص المجلة إلى استنتاج مفاده بأن الكيان الصهيوني يواجه تحديات وجودية غير مسبوقة، وأن مصير الصراعات الدائرة حاليًا يتوقف بشكل حاسم على براعة نتنياهو في إدارة علاقاته مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب.