الوقت - أضفى الهجوم الاستراتيجي لحزب الله على المراكز الحيوية الإسرائيلية، زخماً جديداً على مسرح الأحداث، مع اقتراب الصراع في غزة من عتبة شهره الثاني عشر.
إن هجوم المقاومة اللبنانية الذي استهدف عمق الأراضي المحتلة، يستدعي تحليلاً متعدد الأبعاد:
لقد عجز الكيان الصهيوني عن مجاراة "عملية الأربعين" بالقدر الذي أظهره في "الوعد الصادق"، وما "حرب الروايات" الإسرائيلية حول "الضربة الاستباقية"، إلا محاولة يائسة للتنصل من مواجهة حزب الله.
حيث أصاب الوهن أركان الجيش والنسيج السياسي-الاجتماعي الإسرائيلي، في حين نجحت المقاومة اللبنانية في استنزاف قوى الکيان على الجبهة الشمالية، وإن إعلان المسؤولين الأمريكيين عدم تورطهم في الهجوم المزعوم ضد حزب الله، يؤكد رسوخ معادلة الردع التي أرستها المقاومة في شمال الأراضي المحتلة.
والوجه الآخر لعملية الأربعين، يتجلى في الضغط الفعال على الكيان الصهيوني للإذعان لوقف إطلاق النار، وقد جاء تأكيد السيد حسن نصر الله في خطابه على هذا المحور بقوله: "لعل عمليتنا اليوم تُسهم إسهاماً جوهرياً في تعزيز موقف الأطراف الفلسطينية والعربية خلال المفاوضات، وإن رسالتها جلية للعدو والأمريكيين"، وكانت رسالة حزب الله واضحةً: فرصة أمريكا لـ "مسرحية وقف إطلاق النار" توشك على الانتهاء.
إن العوامل التي حدت بإيران إلى تأجيل ردها المتكافئ على الكيان الصهيوني، ليست سوى عوارض وقتية، فقد انبرى حلفاء تل أبيب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، في مسعى حثيث لاستنباط مخرج يفضي إلى هدنة مؤقتة في غزة، بغية درء أي تحرك عسكري محتمل من جانب طهران ضد "إسرائيل".
کما عمدت واشنطن إلى إقامة صلة وثيقة بين تحييد الهجوم الإيراني المرتقب وقضية وقف إطلاق النار في غزة، ساعيةً بذلك إلى وضع الجمهورية الإسلامية في مأزق دبلوماسي، وتصويرها كطرف يناهض إنهاء الصراع ويسعى لتأجيج أوار التوتر، وبالتالي نسج درع واقٍ حول الكيان الصهيوني.
وقد تجلى هذا النهج جلياً في تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث أفصح عن توقعه بأن تُرجئ إيران أي عمل عدائي ضد "إسرائيل"، في حال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
کذلك، بادرت الولايات المتحدة، بالتنسيق مع مصر، إلى صياغة بيان في القاهرة، أعقبه انطلاق المفاوضات. بيد أن مسودة الاتفاق التي طرحتها أمريكا شهدت تراجعاً ملموساً عن النص السابق المعروف بـ "خطة 2 يوليو"، ومن أبرز مظاهر هذا النكوص في المقترحات الأمريكية السابقة، افتقار وقف إطلاق النار إلى صفة الديمومة، وغياب بند الانسحاب العسكري الإسرائيلي من قطاع غزة.
وإدراكاً منه بأن هذا النص لن يفي بتطلعات الفلسطينيين، لجأ البيت الأبيض إلى سياسة مركبة بغية إرجاء الرد الإيراني، فتمثلت استراتيجية الأمريكيين في هذه المرحلة الحرجة في مسعى مزدوج، وهو كسب الوقت من جهة، وشن حملة إعلامية ضارية ترتكز على تكتيك إلقاء اللوم على إيران وحركة حماس من جهة أخرى، وقد أثبت مرور الوقت أن واشنطن قد لجأت، ولو مؤقتاً، إلى حيلة "التفاوض من أجل التفاوض"، في محاولة لإخضاع الرد الإيراني لعامل الزمن، وإفراغه من مضمونه الاستراتيجي.
منذ اضصرام نيران الحرب في غزة، انتهجت إدارة بايدن نهجًا قوامه تمكين الکيان الإسرائيلي من إحراز نصرٍ مُبين في ميدان الحرب، لتتخذه ذريعةً لإنهاء الصراع لمصلحة تل أبيب، أما الهدنة الراهنة، فقد حيكت خيوطها بغية انتشال "إسرائيل" من وهدة الهزيمة، وهي بمنأى عن حقائق الميدان ومجرياته.
ولهذا السبب، أقرَّ كبار المسؤولين الأمريكيين بأن هذا الاتفاق يترنح على حافة الهاوية؛ إذ صرَّح مسؤولان أمريكيان ونظيران إسرائيليان لصحيفة "بوليتيكو"، بأن الاتفاق الرامي إلى وضع حدٍ للاقتتال في غزة بات على شفا الانهيار، وأنه لا يلوح في الأفق أي بديلٍ عاجلٍ أو جليٍّ يحل محله.
وفي مواجهة المخطط الأمريكي، لجأت إيران وقوى المقاومة إلى معادلة "المؤقت في مقابل المؤقت"، فإذا كانت الاستراتيجية الأمريكية تقوم على إيقافٍ مؤقتٍ لرحى الحرب في غزة (وليس وقفًا لإطلاق النار)، فإن العوامل التي أرجأت الرد الإيراني هي أيضًا ذات طبيعة مؤقتة، وسرعان ما ستتبدد مع تعاقب الأيام.
لقد منحت المقاومة، بحكمتها وصبرها، فسحةً للمساعي الدبلوماسية لتحقيق وقفٍ حقيقي لإطلاق النار في غزة، بيد أنها تأبى بشدة أن تُستغل ورقة وقف إطلاق النار كستارٍ لتلبية مآرب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني؛ أي حاجة أمريكا لرفع الراية البيضاء في خضم الاستعدادات للانتخابات الرئاسية، ورغبة الصهاينة الجامحة في التملص من العقاب الإيراني المحتوم.
لقد أكدت إيران على حتمية ردها بصورة قاطعة، بيد أنها - من خلال انتهاجها لاستراتيجية "الغموض الاستراتيجي" وإبقائها لسيف داموكليس مسلطًا - قد نجحت في فرض حالة من الترقب الحربي على الكيان الصهيوني.
وفي هذا المضمار، أورد معهد دراسات الحرب في تحليله: "أن العوامل التي حالت دون صدور الرد الإيراني لن تستمر في سريانها إلى ما لا نهاية، ما يعني أن دواعي استمرار طهران في تأجيل ضربتها ستتضاءل مع تعاقب الأيام".
وفيما لو أسفرت المستجدات الراهنة عن وقف إطلاق نار فعلي، يتضمن جلاءً إسرائيليًا تامًا عن أرض غزة، فقد يكون في ذلك ما يصرف طهران عن الرد على الكيان الإسرائيلي، غير أن إيران، في الفترة الأخيرة، قد أفلحت في زعزعة أركان الحياة الاعتيادية في الأراضي المحتلة، وإلحاق خسائر فادحة بالكيان الصهيوني تُقدر بمليارات الدولارات، مستخدمةً في ذلك "شبح التهديد" وحده، وهذا في حد ذاته يُعدّ ظفرًا مؤزرًا وانتصارًا مبينًا تحقق دون الحاجة إلى خوض غمار الحرب الفعلية.