الوقت– تركيا التي كانت جزءاً من أزمة هذه الدول في تطورات العراق وسوريا في العقد الماضي، تبنت سياسة التفاعل مع جيرانها هذه الأيام.
وفي هذا الصدد، وبعد عدة سنوات من الخلافات الحدودية بسبب وجود الجيش التركي في شمال العراق، توصلت تركيا والعراق أخيرا إلى اتفاق أمني الأسبوع الماضي لحل الخلافات ومنع التوترات الدورية.
وتم توقيع هذه الاتفاقية التاريخية خلال زيارة وزير الخارجية العراقي إلى أنقرة، والتي أعلن خلالها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الخميس، عن اتفاق التعاون الأمني والعسكري ومكافحة الإرهاب بين البلدين، مؤكداً: "من خلال مراكز التنسيق المشترك والتدريب المخطط له في إطار هذا العقد، نعتقد أنه يمكننا رفع تعاوننا إلى مستوى أعلى".
كما أضاف مصدر دبلوماسي تركي في حديث لوسائل إعلام تركية: إن الاتفاق يؤكد على إنشاء مركز مشترك للتنسيق الأمني في بغداد، إضافة إلى مركز مشترك للتدريب والتعاون في بعشيقة بمحافظة نينوى.
من جانبه، قال فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي، فيما وصف اتفاق الخميس بأنه غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين، عن تفاصيل هذا الاتفاق: “بموجب مسودة الاتفاق ستكون مسؤولية قاعدة بعشيقة وسيتم نقله إلى القوات المسلحة العراقية وإلى مركز التدريب"، وقرر العراق وضع حزب العمال الكردستاني على قائمة الأحزاب المحظورة.
تجدر الإشارة إلى أن مسودة هذه الاتفاقية الأمنية تم الانتهاء منها الأسبوع الماضي، في حين كانت مسألة التعاون الأمني وجهود التوقيع على اتفاقية شاملة بشأن أهم الاهتمامات الأمنية للبلدين إحدى القضايا الرئيسية في المفاوضات بين البلدين وقادة تركيا والعراق خلال رحلة رجب طيب أردوغان قبل ثلاثة أشهر إلى بغداد.
وينتهك الجيش التركي وحدة أراضي العراق بحجة قتال عناصر حزب العمال الكردستاني منذ سنوات، ونددت بغداد مرارا وتكرارا بالضربات الجوية التركية في شمال العراق وسعت إلى رفع دعوى قضائية ضد أنقرة إلى السلطات الدولية.
في غضون ذلك، وفي الأشهر الأخيرة، مع بدء مشاورات مفتوحة وسرية بين البلدين، أعرب مسؤولون عراقيون، مثل الرئيس عبد اللطيف رشيد، عن أملهم في إمكانية التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات الدبلوماسية.
لماذا وافقت تركيا على الاتفاقية؟
إن حقيقة موافقة تركيا على هذه الاتفاقية الأمنية بعد عقد من الهجمات العرضية على الأراضي العراقية يمكن فحصها من زوايا عديدة، ما يدل على أن رجال الدولة في أنقرة قد وزنوا جميع القضايا وتوصلوا إلى نتيجة مفادها بأن التعاون مع العراق في هذه المرحلة الحالية سيكون أكثر لمصلحتهم، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة العراقية تقدمت خلال السنوات الأخيرة بشكوى للأمم المتحدة من عدوان تركيا واحتلالها لشمال البلاد وطالبت بوقف هذه الاعتداءات.
وطلبت الأمم المتحدة في عدة بيانات من تركيا احترام سيادة العراق، ولذلك، شعرت تركيا بالقلق من أن يؤدي حجم شكاوى العراق ضد أنقرة في الأمم المتحدة إلى تشويه صورتها وتقديم صورة عدوانية لتركيا أمام العالم، ولذلك تحاول تركيا بهذه الاتفاقية الأمنية منع تقديم شكاوى جديدة من بغداد إلى الأمم المتحدة وتعزيز صورتها السياسية، لأنه في حالة الحرب في أوكرانيا وغزة، أظهرت تركيا وجهاً محباً للسلام وتصالحياً وطالبت بالوساطة بين الأطراف المتنازعة.
الأمر الآخر الذي دفع تركيا إلى التعاون مع بغداد هو مدى فعالية ردود الفعل التدريجية لمجموعات المقاومة العراقية، التي بعد سجل ناجح في الحرب ضد الإرهاب والانفصالية، أصبحت الآن قوة جبارة تحمي أمن وسلامة أراضي العراق.
وفي السنوات الأخيرة، دأبت مجموعات الحشد الشعبي على وصف تركيا بالمعتدي وطالبت بانسحاب قوات هذا البلد من أراضي العراق، ونفذت في بعض الأحيان هجمات صاروخية وطائرات مسيرة على بعض المعسكرات التركية، وقد أثبتت هذه الجماعات، التي نفذت مئات الهجمات على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا والأراضي المحتلة بعد بدء حرب غزة في الأشهر العشرة الأخيرة، أن لديها القدرة على مواجهة التحديات الصعبة والمكلفة بالنسبة للأتراك والقوى المعتدية في هذا البلد.
والحقيقة أن الهجمات المتواصلة على القواعد الأمريكية، والتي لم يسبق لها مثيل بعد الحرب العالمية، كانت بمثابة نوع من التحذير للجار الشمالي بأن المقاومة العراقية ستتعامل مع كل المعتدين بهذه الطريقة، وربما بعد أمريكا، سيكون الدور على تركيا، ولذلك يفضل أردوغان عدم الصدام مع جماعات المقاومة التي غيرت معادلات المنطقة، لأنه يعلم أن مواجهة هذه الجماعات ستكلف أنقرة الكثير.
والنقطة الأخرى هي أنه من خلال هذه الاتفاقية الأمنية، تريد تركيا تسليم جزء من خطة التعامل مع حزب العمال الكردستاني إلى العراق، حتى يتمكن هذا البلد من تحييد التهديدات الإرهابية من هذه المجموعة.
وفي الاتفاقية الأمنية مع إيران، التزم العراق بإخراج الجماعات الانفصالية من حدود إيران، وتحاول تركيا أيضًا الحصول على مثل هذه الضمانات من بغداد من خلال الاقتداء بهذا الاتفاق، وتعلم تركيا أن الوجود طويل الأمد للقوات العسكرية في العراق والهجمات على مواقع الإرهابيين يتطلب الكثير من المال، ولهذا الغرض، قامت بتقسيم العمل مع الاتفاقية الأمنية بحيث يشارك العراق أيضًا في عملية مكافحة الإرهاب هذه.
وبالطبع، من الممكن أيضاً أن تسعى أنقرة إلى تحقيق هدف خفي من وراء هذا الاتفاق، وأنه إذا أهملت الحكومة العراقية التزاماتها، فيمكنها استخدام هذا الذريعة لاستئناف الهجمات ضد حزب العمال الكردستاني وجعلها تبدو مشروعة وتقطع الطريق عملياً أي معارضة قانونية من بغداد.
أمن ممر أردوغان المفضل
وإلى جانب العوامل الأمنية والعسكرية، شكلت القضايا الاقتصادية جزءا بارزا من تشكيل الاتفاقية الأمنية بين أنقرة وبغداد.
وبما أن العديد من دول المنطقة تتنافس للسيطرة على التجارة الدولية من خلال إنشاء ممرات اقتصادية تجارية جديدة، فإن تركيا تعتزم لعب دور مركزي في ربط التجارة بين آسيا وأوروبا.
منذ العام الماضي، عندما اقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن ممر "نيودلهي - الشرق الأوسط - أوروبا"، حاولت تركيا، بينما كانت تعارض هذا المشروع، تنفيذ ممراتها البديلة بمساعدة الشركاء الإقليميين، ولهذا السبب تم الاتفاق مع الحكومة العراقية على بناء ممر التنمية "ميناء الفاو - تركيا - أوروبا".
وفي ظل هذه الظروف، بحلول عام 2025، ستصل سعة ميناء الفاو إلى 90 رصيفاً، وفي هذه الحالة سيتفوق هذا الميناء على ميناء جبل علي في دبي كأكبر ميناء للحاويات في الشرق الأوسط.
ومع اكتمال هذا المشروع، سيزداد حجم التبادلات التجارية مع العراق بشكل كبير وسيتم توفير المزيد من الفرص لتسهيل صادرات تركيا إلى جنوب وشرق آسيا.
وحسب البيانات التركية الرسمية، بلغت قيمة التجارة الثنائية بين تركيا والعراق 19.9 مليار دولار في عام 2023، ولذلك، للاستفادة من الممرات الاقتصادية، كانت تركيا بحاجة إلى التعاون الأمني مع العراق، وهو ما كان عليها الموافقة عليه لاعتبارات تجارية، لأن الممرات التجارية يمكن أن تكون ناجحة عندما يسود الأمن في المنطقة، وكانت التعديات التركية على الأراضي العراقية والهجمات التي تشنها العناصر الانفصالية رادعاً في هذا الصدد.
ومن أجل تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة من مشروع طريق التنمية، يبدو من الضروري تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع الجيران، وبعد تطبيع العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، تحاول أنقرة توطيد العلاقات مع العراق وتحقيق طموحاتها في خططها التجارية المتباطئة.
ولهذه الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية فوائد كثيرة للعراق، وفي المستقبل، إذا أرادت أنقرة الاستمرار في سياساتها العدوانية، فيمكنها الضغط على تركيا وأخذ تنازلات من خلال إيقاف شريان الحياة الاقتصادي لتركيا.
افق غامض للاتفاق
ورغم توقيع تركيا والعراق على الاتفاقية الأمنية، لكن بالنظر إلى تجربة السنوات الماضية وعدم الثقة في وعود رجال دولة أنقرة، فإنه من غير المعروف بعد إلى أي مدى سيتم تنفيذ هذه الاتفاقيات على أرض الواقع.
ومن ناحية أخرى، فإن موقف حزب العمال الكردستاني مهم أيضاً في هذه الأثناء، ماذا سيكون رد الفعل على هذا الاتفاق الأمني، وهل ستبدي بغداد الإرادة اللازمة لمواجهة هذه العناصر الإرهابية أم لا، كل شيء يعتمد على مدى إظهار بغداد وأنقرة في تنفيذ التزاماتهما بالقضاء على التهديدات الأمنية على الحدود المشتركة.
وسوف يصبح التعاون الحقيقي بين البلدين حقيقة عندما يحترم كل منهما سلامة أراضي الآخر ويتجنبان أي نوع من الاحتلال.
وتمتلك تركيا حاليا ما يقرب من 30 قاعدة في شمال العراق، ويريد جميع العراقيين أن تنسحب تركيا من هذه المناطق لإظهار حسن النية وتسليم إدارتها للحكومة المركزية، لكن إذا أرادت أنقرة مواصلة احتلالها، فإذا استمرت، فسوف تواجه تحديات مع العراقيين، وسيكون لهذه القضية تأثير سلبي على العلاقات السياسية والاقتصادية الثنائية.