الوقت- مع اندلاع الحرب في أوكرانيا زاد دور موارد الطاقة في المنافسة الجيوسياسية بشكل ملحوظ، فبينما حاولت أمريكا تركيع الاقتصاد الروسي بسلاح العقوبات وإمبراطورية هيمنة الدولار، حاولت موسكو أيضاً استخدام أصولها في مجال الطاقة كوسيلة ضغط ضد الغرب، لكن يبدو أن هذا التقارب الاقتصادي أصبح أرضية مواتية لإحياء أحد المشاريع الطموحة ولكن على أرضية مشتركة بين إيران وروسيا.
وفي هذا الصدد، وقعت شركة الطاقة الروسية العملاقة "غازبروم" وشركة الغاز الوطنية الإيرانية، الأسبوع الماضي، مذكرة تفاهم لبدء النقل المباشر للغاز من روسيا إلى إيران بحضور وزير النفط الإيراني جواد أوجي، وهو ما يمثل ثورة في مشهد الطاقة والصناعة في المنطقة.
ويرى سايمون واتكينز، المحلل الاقتصادي، في تقرير نشره موقع أويل برايس الأمريكي أن: "مذكرة التفاهم هذه وغيرها من الاتفاقيات قبلها يمكن اعتبارها في الواقع نقطة انطلاق رائعة للبلدين لتطوير خطتهما طويلة المدى وتشكيل اتحاد عالمي لمصدري الغاز، على غرار منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)".
وترتكز مذكرة التفاهم الجديدة بين روسيا وإيران على أساس متين لمنتدى الدول المصدرة للغاز، الذي أصبح منظمة رسمية مقرها الدوحة في ال 23 من ديسمبر/كانون الأول 2008، خلال الاجتماع السابع لوزراء النفط والطاقة في موسكو، وبالإضافة إلى روسيا وإيران وقطر، فإن دول الجزائر وبوليفيا ومصر وغينيا الاستوائية وليبيا ونيجيريا وترينيداد وتوباغو وفنزويلا كانت حاضرة أيضًا في تجمع الدول المصدرة للغاز.
وتمتلك روسيا وإيران وقطر معًا ما يقرب من 60% من احتياطيات الغاز في العالم، وتأتي روسيا في المركز الأول (بحوالي 1,688 تريليون قدم مكعب من الغاز) وإيران في المركز الثاني (بحوالي 1,200 تريليون قدم مكعب من الغاز)، وتسيطر رابطة الدول المصدرة للغاز بشكل جماعي على نحو 71% من إمدادات الغاز العالمية، و44% من إنتاج السوق، و53% من خطوط أنابيب الغاز، و57% من صادرات الغاز الطبيعي المسال.
وتظهر مذكرة التفاهم الأخيرة بين غازبروم وشركة النفط الوطنية الإيرانية والعقد السابق لعام 2022 بين الشركتين أن التحالف الروسي الإيراني يهدف إلى تعظيم العنصرين الرئيسيين للإمدادات العالمية، بما في ذلك نقل الغاز البري عبر خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي المسال مراقبة النقل من خلال السفن إلى وجهات التصدير.
وفي هذا الصدد، أعلن حميد حسيني الممثل الرسمي لاتحاد مصدري النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية الإيرانية، في بيان بعد توقيع المذكرة بين شركة غازبروم وشركة النفط الوطنية الإيرانية لعام 2022: "لقد توصل الروس الآن إلى الاستنتاج بأن استهلاك الغاز في العالم سيزداد وأن اتجاه استهلاك الغاز المسال قد زاد وأنهم وحدهم غير قادرين على تلبية الطلب العالمي، ولذلك لم يعد هناك مجال للمنافسة على الغاز بين روسيا وإيران، الفائز في الحرب بين روسيا وأوكرانيا هو أمريكا وستسيطر على السوق الأوروبية، وإذا تمكنت إيران وروسيا من العمل معًا للحد من نفوذ الولايات المتحدة في أسواق النفط والغاز والسلع الأساسية، فإن ذلك سيفيد كلا البلدين".
الشراكة بين روسيا وإيران في مجال الغاز
ومن أجل تعزيز مشروع غاز أوبك، طرحت إيران وروسيا مشاريع مشتركة في إطار اتفاق 2022، إحداها مساعدة شركة غازبروم لشركة النفط الوطنية الإيرانية في تطوير حقلي غاز كيش وبارس الشمالي بقيمة 10 مليارات دولار بهدف إنتاج أكثر من 10 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً من هذه الحقول، والثاني هو دعم شركة الغاز الروسية في خطة بقيمة 15 مليار دولار لزيادة إنتاج الغاز في حقل جنوب بارس على الحدود البحرية لإيران وقطر، والحالة الثالثة هي مساعدة شركة غازبروم في استكمال العديد من مشاريع الغاز الطبيعي المسال، بما في ذلك في شمال فارس ثم جنوب فارس لاحقًا وبناء خطوط أنابيب لتصدير الغاز، ويشكل نقل الغاز من روسيا إلى شبكة خطوط الأنابيب الواسعة في إيران خطوة حيوية في هذا المشروع، ويكمن المشروع الرابع أيضا في جهود روسيا المتواصلة لتشجيع قوى الغاز الكبرى الأخرى في الشرق الأوسط على الانضمام إلى التأسيس التدريجي لمنظمة "أوبك للغاز".
ولقد قال مصدر كبير في وزارة النفط الإيرانية: "يعتبر الغاز على نطاق واسع المنتج الأمثل في التحول العالمي من الوقود الأحفوري إلى الطاقات المتجددة، وإن السيطرة عليها قدر الإمكان ستكون مفتاح النفوذ القائم على الطاقة في السنوات العشر إلى العشرين المقبلة، تماماً كما كانت إمدادات الغاز والنفط الروسية إلى أوروبا قبل حرب أوكرانيا".
ومن الجدير بالذكر أنه بعد بدء الحرب في أوكرانيا، والتي أدت إلى توقف صادرات النفط والغاز الروسي إلى أوروبا، استغلت الولايات المتحدة هذه الفرصة واستطاعت توفير جزء من احتياجات حلفائها من خلال بيعها غازها، ولكن سعر غازها كان أعلى بأربعة أضعاف من سعر بيعه للأوروبيين بالأسعار العالمية، لذلك، تحاول روسيا وإيران جس نبض الأسواق العالمية من خلال التعاون في مجال الطاقة، وفي الوقت الذي تواجه فيه أوروبا أزمة طاقة، استخدم هذا النفوذ لتقليل تأثير العقوبات، وفي هذه الأثناء، على الدول الغنية بالطاقة في المنطقة والعالم فتح حساباتها، و لقد كان دور الطاقة في حرب أوكرانيا واضحا تماما، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط في العالم، وقد أثارت هذه القضية قلقا كبيرا لدى الغربيين، وإذا أوقفت الدول المالكة للغاز عملية نقل الغاز لفترة قصيرة، فإن الغربيين سيعانون أكثر من غيرهم، وكان شتاء أوروبا القاسي عام 2023 مؤشرا على هذه الحقيقة.
نقل الغاز إلى أوروبا عبر ممر الطاقة بين الشمال والجنوب
ورغم أن إيران وروسيا لا تستطيعان تصدير غازهما مباشرة إلى أوروبا، فقد تم اتخاذ الترتيبات اللازمة لتصدير هذه الموارد الغنية إلى مناطق أخرى من العالم من خلال وسطاء، ووفقًا لموقع أويل برايس، فإن بدء نقل الغاز بشكل منتظم من روسيا إلى إيران يرتبط باقتراح طهران لموسكو في ال 11 من مايو بإنشاء "ممر طاقة" أوسع من روسيا إلى الخليج الفارسي، وهذا بدوره يتوافق مع إعلان تركيا في ال 12 من مايو/أيار، الذي ذكرت فيه أنها مهتمة بشراء المزيد من الغاز والنفط من إيران وإمكانية نقل هذه الموارد إلى أوروبا الشرقية عبر تركيا.
تسعى إيران وروسيا إلى تحقيق الأهداف من شراكة الغاز هذه، فأولاً، سوف تكون روسيا قادرة على التحايل على العديد من القيود الدولية الحالية من خلال تبني آليات إيران التي أثبتت فعاليتها في خرق العقوبات المفروضة على مبيعات الغاز والنفط (سواء إلى تركيا، أو إلى جنوب وشرق أوروبا، أو عبر العراق إلى بقية العالم)، كما أن إنشاء شبكة ممرات النقل الجديدة هذه من روسيا إلى إيران ومن ثم إلى تركيا أو موانئ البحر الأبيض المتوسط في سوريا يتوافق أيضًا مع "مبادرة الحزام والطريق".
وفي هذا الصدد، شهد شهر حزيران/يونيو الماضي اجتماعات رفيعة المستوى بين كبار المسؤولين العراقيين والصينيين لوضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل المرحلة التالية من خطة التعاون الموسعة، ووضعت اتفاقية «النفط مقابل الإعمار والاستثمار» لعام 2019، والتي أصبحت فيما بعد «الاتفاقية الإطارية بين العراق والصين» لعام 2021، أركان هذه الخطة.
لقد ركزت هذه الاتفاقيات في البداية على تطوير احتياطيات النفط والغاز، ثم أصبحت فيما بعد تطوير الطرق والسكك الحديدية وشركات الطيران وخطوط الشحن، ثم اتسعت بعد ذلك إلى التعاون في المجالات الأمنية، وتمحورت الاجتماعات الأخيرة بين كبار الشخصيات العراقية والصينية بشكل رئيسي حول تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية من تطوير العلاقات، لكنها ركزت بشكل أكبر على خطط تطوير طريق العراق الاستراتيجي الذي تبلغ تكلفته 17 مليار دولار وربطه مباشرة بمشروع مبادرة الحزام والطريق الصينية.
بشكل عام، يمكن القول إن الدول الغربية المستهلكة للغاز تشعر بالقلق من أن إنشاء تكتل للدول المصدرة للغاز على غرار أوبك سيسمح لهذه الدول بالتأثير على اقتصاد مستهلكي الطاقة من خلال تحديد أسعار الغاز، وباعتبارهما المالكين الرئيسيين للغاز في العالم، فإن روسيا وإيران تنظران إلى إنشاء كارتل للغاز باعتباره رافعة للنفوذ الجيوسياسي في النظام الدولي، وبما أن روسيا والصين تقودان عملية إنشاء "النظام العالمي الجديد" بمشاركة الآسيويين، فإن استخدام النفط والغاز كسلاح للضغط على الغرب سيكون على جدول الأعمال في المستقبل.
وفي العامين الأخيرين بذلت روسيا الكثير من الجهود لمواءمة الدول النفطية والغازية مع سياساتها وتحييد تحركات أمريكا وأوروبا لزيادة إنتاج الطاقة لهذه الدول، ومع تحالف الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية مع روسيا، فإنهما لم يتعاونا مع طلب الولايات المتحدة بزيادة إنتاج النفط اليومي وأدى في النهاية إلى زيادة أسعار النفط في الأسواق العالمية، وإذا تم منح هذا التكتيك الأولوية في منظمة أوبك للغاز، فإن الغربيين سيدفعون ثمناً باهظاً للحصول على الغاز الذي يحتاجون إليه.