الوقت- في حين وضعت حرب غزة الحكومة التركية على طريق صعب لأشهر متتالية، حيث كانت تحت ضغط الرأي العام الداخلي بسبب استمرار العلاقات الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، إلا أن كأس الصبر أخيراً نفد، وقررت أنقرة تعليق العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب إلى أجل غير مسمى، وكانت وزارة التجارة التركية قد أعلنت أنها أوقفت جميع التبادلات التجارية مع الكيان الصهيوني منذ الخميس الماضي وأوقفت جميع الصادرات والواردات من وإلى الأراضي المحتلة، وقالت الوزارة في بيان: "تركيا ستنفذ هذه الإجراءات الجديدة بشكل صارم وحاسم حتى تسمح حكومة إسرائيل بتدفق المساعدات الإنسانية بشكل كاف دون انقطاع إلى غزة".
وهذه ليست العقوبة الاقتصادية الأولى التي تفرضها تركيا ضد الكيان الصهيوني، ففي الشهر الماضي، حظرت أنقرة أيضًا تصدير 54 سلعة، بما في ذلك وقود الطائرات وحديد البناء والفولاذ المسطح والرخام والسيراميك وغيرها، إلى الأراضي المحتلة، وفي الفترة نفسها أيضًا، ألغت الخطوط الجوية التركية الحجز عبر الإنترنت لرحلاتها إلى الأراضي المحتلة حتى مارس 2025.
وبينما شهدت تركيا وضعاً اقتصادياً غير مؤاتٍ في السنوات الأخيرة وانعكست آثاره على الوضع السياسي الداخلي بشكل واضح في انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلا أن الإعلان المفاجئ عن إنهاء العلاقات التجارية مع الكيان الصهيوني كان بمثابة صدمة، وهو ما يشير في نظر العديد من الخبراء إلى أن فصلاً جديداً من العلاقات بين أنقرة وتل أبيب على وشك البدء.
كما يمكن النظر في آثار هذا النهج الجديد لممارسة الضغط المزدوج على الحكومات العربية في زيادة الدعم العملي والحقيقي لفلسطين، لكن في البداية، يمكن لنظرة سريعة على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين واتجاهها خلال العقود الماضية أن تظهر بشكل أفضل أهمية وتأثير التحرك التركي للضغط على الصهاينة وتحديد الاتجاه المستقبلي للعلاقات بين البلدين.
اتفاقية تجارة حرة
لم يكن الإعلان عن إنهاء علاقات تركيا الاقتصادية مع الكيان الصهيوني من جانب واحد قضية يمكن لقادة تل أبيب تجاوزها وتجاهلها بسهولة، وأثار هذا التصرف غضب وقلق الصهاينة، وفي أول رد فعل اتهم غانتس، وزير خارجية هذا الكيان، أنقرة بانتهاك الاتفاقات، وقال غانتس في منصة X: "هكذا يتصرف الدكتاتور ويتجاهل مصالح الشعب التركي ورجال الأعمال الأتراك ويتجاهل اتفاقيات التجارة الدولية"، وأضاف غانتس: إنه "أصدر تعليمات إلى وزارة الخارجية للعمل على إيجاد بدائل للتجارة مع تركيا، مع التركيز على الإنتاج المحلي والواردات من الدول الأخرى".
ويذكر أن حجم العلاقات التجارية بين الجانبين في عام 2023 سيبلغ نحو 7 مليارات دولار، منها 5.42 مليارات دولار حصة الصادرات التركية إلى الأراضي المحتلة و1.5 مليار دولار قيمة تصدير المنتجات الإسرائيلية إلى تركيا.. وسيكون هذا الرقم حوالي 9.5 مليارات دولار في عام 2022، وهو ما يدل على انخفاض ملحوظ، ومن ناحية أخرى، تشير بيانات جمعية المصدرين الأتراك إلى أن صادرات تركيا للكيان الصهيوني انخفضت بنسبة 21.6 بالمئة في الربع الأول من عام 2024، بعد شهرين من بدء الحرب على غزة.
وبلغ هذا الانخفاض مقارنة بالموسم نفسه من العام الماضي نحو 28%، كما بلغت حصة الصادرات إلى "إسرائيل" في الربع نفسه 2.06% من إجمالي الصادرات، مقارنة بـ 2.69% في الفترة نفسها من عام 2023، ولدى تركيا والكيان الصهيوني اتفاقيات تجارة حرة يعود تاريخها إلى منتصف التسعينيات؛ وتم تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة هذه منذ عام 1997.
وفي إطار هذه الاتفاقية، تتم تجارة المنتجات الصناعية بين تركيا و"إسرائيل" من دون رسوم جمركية منذ 1 يناير 2000، وتظهر بيانات جمعية المصدرين الأتراك، أنه بين عامي 2011 و2020، صدرت تركيا الصلب ومنتجات صناعة السيارات والمواد الكيميائية والأسمنت والزجاج والسيراميك ومواد البناء والأثاث والورق والملابس الجاهزة والكهرباء والإلكترونيات إلى الكيان الصهيوني.
وتشير البيانات نفسها أيضًا إلى أن "إسرائيل" استوردت ما قيمته 3 مليارات و684 مليون دولار من السيارات وأنواع أخرى من المركبات من تركيا، والطاقة تعتبر أحد مجالات التعاون الاقتصادي بين الجانبين خلال الأعوام 2011 إلى 2020، حيث استوردت تل أبيب ما قيمته 2 مليار و737 مليون دولار من النفط الخام من تركيا، ومن ناحية أخرى، احتلت المجوهرات أيضًا مكانة مهمة بين منتجات التصدير التركية إلى فلسطين المحتلة.
خسائر متفاوتة
ومن المؤكد أن توسع حجم التبادلات والتعاون الاقتصادي والتجاري بين تركيا والكيان الصهيوني يجعل ظهور عواقب اقتصادية ضارة على التجار والشركات من الجانبين أمرًا لا مفر منه، فمن ناحية، تركيا، التي تتمتع بميزان تجاري إيجابي في الصادرات إلى الأراضي المحتلة وكذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، تكمن المشكلة في حرمان المصدرين من سوق تبلغ قيمتها نحو 6 مليارات دولار، وفي هذا الصدد، قال مصطفى غولتبه، رئيس اتحاد المصدرين الأتراك: "هناك شركات تنتج ما بين 70 و80 بالمئة من صادراتها إلى إسرائيل، وإذا استمر حظر التصدير لفترة طويلة، فإنها ستواجه مشكلة كبيرة".
وقال غولتبه: "على الحكومة أن تحميهم وتغطي خسائرهم"، وأضاف: ليست مهمة سهلة تغطية خسارة 5-6 مليارات دولار التي قد تحدث بسبب توقف الصادرات إلى "إسرائيل"، وأضاف "إذا لم يتم حل المشكلة التجارية (مع الكيان) في غضون شهر أو شهرين، فيجب علينا خفض هدف التصدير من 267 مليار دولار إلى 260 مليار دولار في نهاية العام".
وعلى الرغم من أن هذه المخاوف طبيعية بالنسبة لرجال الأعمال والمستثمرين الأتراك على المدى القصير، إلا أن الحكومة التركية تحاول بالفعل تحقيق إنجاز في مجال القوة الناعمة ودعم الرأي العام الإسلامي من خلال الإعلان عن إجراءاتها العقابية ضد الصهاينة ودعمها فلسطين وتستخدم هذا الدعم لتعويض الخسائر الاقتصادية من خلال اتجاه المسلمين لشراء البضائع التركية.
لكن في المقابل، فإن قطع العلاقات الاقتصادية مع تركيا بالنسبة للكيان الصهيوني لا يعني سوى الخسائر والمشاكل المتزايدة في الحرب، وحسب تقرير نشره موقع "واينت" يوم الجمعة الماضي، فإن تعليق كل أشكال التجارة بين "إسرائيل" وتركيا قد يلحق أضرارا جسيمة بصناعة وتجارة هذا الكيان، وحسب هذا التقرير فإن حجم استيراد المواد الأولية والبضائع من تركيا يبلغ نحو خمسة مليارات دولار سنويا، ويضيف هذا الموقع الإخباري: من المتوقع أن تتكبد عشرات المصانع الإسرائيلية خسائر تصل إلى مليار ونصف المليار دولار لتركيا بسبب توقف الصادرات.
تعد تركيا حاليًا أحد أكبر الشركاء التجاريين للكيان الصهيوني، ووفقًا لتقرير تايمز أوف إسرائيل، فإن الحظر الذي تفرضه تركيا على صناعة البناء الإسرائيلية أمر متوقع، حتى عندما تأثر هذا القطاع بشدة من حرب غزة، وحسب هذه الصحيفة العبرية، تستورد "إسرائيل" نحو 70 بالمئة من مواد البناء الحديدية ونحو ثلث احتياجاتها من الأسمنت من تركيا لاستخدامها في البناء المحلي وصناعة البناء والتشييد، وتعد "إسرائيل" أيضًا إحدى الوجهات الرئيسية للصلب التركي.
وقال شاي بوسنر نائب المدير العام لجمعية بناة إسرائيل لهذه الصحيفة الصهيونية: إن "تركيا ليست المنتج الوحيد لمواد البناء الأساسية، لكنها المنتج الأرخص بسبب قربها الجغرافي"، ووفقا لبوزنر، فإن الإجراء الذي اتخذته تركيا سيجبر المستوردين على البحث عن موردين بديلين من دول أخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى "تكاليف إضافية وارتفاع الأسعار للمستهلكين والشركات" ويجعل البناء أكثر تكلفة، وكان ارتفاع التكاليف على المستهلكين بالنسبة لسكان الأراضي المحتلة أحد التبعات الاقتصادية لبدء الحرب في غزة خلال الأشهر الماضية، وكان إعلان حظر حركة السفن التجارية من وإلى الكيان الصهيوني في البحر الأحمر ومضيق باب المندب من قبل أنصار الله اليمنيين، فضلاً عن الهجمات المتكررة التي تشنها فصائل المقاومة على موانئ الكيان، قد زاد بشكل كبير من حدة الأزمة، وتكاليف ووقت نقل البضائع من الأسواق العالمية إلى الأراضي المحتلة، ما أدى إلى زيادة التضخم.
نهاية شهر العسل الاقتصادي
وخلال تنظيم العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني، فإن هذا العنصر المتمثل في ضرورة بقاء ساحل التعاون الاقتصادي الهادئ بعيداً عن الأمواج الهائجة لبحر التوترات السياسية المضطرب، كان دائماً جزءاً لا يتجزأ وثابتاً في سياسات كل من البلدين، وقد تسبب هذا الوضع في أنه حتى الأزمات السياسية الحادة والعلاقات العدائية لم تعق الأعمال المتنامية والمزدهرة لكلا الجانبين خلال السنوات الماضية.
وأظهر وصف القرارات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذتها تركيا، رغم وجود مشاكل اقتصادية داخلية وحاجة الحكومة إلى إيجاد أسواق جديدة لدعم المنتجين، أن هذه المعادلة الثابتة المتمثلة في "فصل السياسة عن الاقتصاد" لم تعد المبدأ الثابت في أنقرة- علاقات تل أبيب كما كانت في الماضي، والتوترات السياسية سيكون لها عواقب اقتصادية حتمية، وفي الواقع، يُظهر الحصار الاقتصادي أنه لم يبق سوى العداء بين تركيا والكيان الصهيوني، كما أن فترات التهدئة القصيرة ليس لها تأثير كبير على تغييرات كبيرة في هذا المنظور، وخاصة الآن بعد أن أعلنت أنقرة أنها تريد متابعة قضية "الإبادة الجماعية" ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية.