الوقت - حرب عدوانية إجرامية شنها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة أجهزت على كل ما ينبض بالحياة، ودمرت كل شيء، أعقبها هجوم بري واسع النطاق في القطاع، وهو ما أسفر عن مقتل 27940 شخصاً، وعشرات آلاف الجرحى، معظمهم من النساء والأطفال، وفق آخر إحصاء لوزارة الصحة الفلسطينية.
هذه الحرب شهدت استنكارا إقليميا ودوليا كبيرا، وحتى الدول الداعمة لتلك الحرب بدأت تتململ وتستدير في مواقفها، رافضة السلوك الإجرامي الإسرائيلي، ولم يكن الوضع في الداخل الإسرائيلي أفضل، فمع حالة الاشتباك السياسي الداخلي، والتخلي عن المسؤوليات، والعجز في تحقيق أهداف الحرب، برز عدد من المعارضين للحرب، ولسياسات قادة الكيان عموما.
مُدرس التاريخ مئير باروشين البالغ 62 عاما واحد ممن رفضوا الحرب الإجرامية على غزة فطردته سلطات كيان الاحتلال من المدرسة الثانوية حيث كان يعمل قرب تل أبيب، ولم تكتفِ بذلك، بل زجت به في السجن واعتبرته "سجينا شديد الخطورة"، بسبب إثارته بلبلة بنشره صورة فيها تنديد بالحرب في غزة، عقب هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
واتهمت بلدية "بيتاح تكفا" باروشين بـ "الفتنة" و"التحريض على الإرهاب"، بعد نشره صورة لعائلة فلسطينية مقتولة تضم أطفالا، على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ عُرِفَ عنه موقفه الرافض للحرب وقد انتقد قبلها طياري الجيش الإسرائيلي ووصفهم بـ "قتلة الأطفال".
بعد الاتهام أوقفت الشرطة باروشين في 18 أكتوبر، وطردته المدرسة التي يعمل بها في اليوم التالي، وفي 9 نوفمبر، وضع في حبس انفرادي في القدس، من دون نوافذ، بتهمة "نية ارتكاب خيانة" و"نية الإخلال بالنظام العام"، إذ تم اتهامه بالتعبير عن مشاعر معادية للجيش الإسرائيلي في الماضي ومحاولة تشجيع طلاب المدارس الثانوية على رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي.
وفي 14 نوفمبر أسقطت المحكمة الاتهامات عن باروشين، وأذنت له باستئناف عمله في التدريس، مؤقتا في مدرسة إسحق شامير الثانوية في مدينة بيتاح تكفا، ولكن من خلال دروس مسجّلة لتجنب المشاكل في انتظار قرار من محكمة العمل في نهاية شهر مارس، لكن تلاميذه رفضوا الدخول إلى الصف عندما عاد إلى المدرسة في 19 نوفمبر، إذ قال: "يرون أنني مؤيد لحماس"، التي شكّل هجومها صدمة في الكيان، حيث يُجمع غالبية الإسرائيليين على تأييد الجيش الذي طلبت منه حكومة بنيامين نتنياهو "القضاء على حماس".
يقول باروشين وهو عضو في منظمة "النظر في عيون الاحتلال" التي تندد بوضع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة: "في إسرائيل هناك من يقول: نحن لا نهتم بمقتل مدنيين أبرياء في غزة بعد ما فعلته حماس بنا، إنهم يستحقون ذلك، ويقول آخرون: من المؤسف قتل مدنيين أبرياء، لكنه خطأ حماس، وإسرائيل ليست مسؤولة"، مضيفا: "بالنسبة إلي، هذا غير مقبول، كإسرائيليين، نتحمل مسؤولية، حكومتي تجعلني قاتلا".
ويدافع باروشين عن فكرة التوصل إلى حل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مؤكداً أن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول جعله "مصدوما ومُرَوَّعاً"، وهو أب لتوءمين يبلغان 19 عاما تم تجنيدهما في الجيش في ديسمبر/كانون الأول، ويرى أن العملية العسكرية في غزة "لا تخدم أمن إسرائيل، بل على العكس، الأيام (التي نمر بها) تخلق الكراهية لأجيال".
زملاء باروشين من المعلمين يدركون الخطر الذي يصدر عن الكيان تجاه من يتبنى موقفا رافضا لسياسات قادته، لذا قدموا لباروشين دعمًا خجولًا، متذرعين بذرائع واهية، وقد قال باروشين حول ذلك: "إنهم يخشون التحدث"، فما حصل مع هذا المدرس كان بمثابة درس للآخرين كي لا يسيروا على نهجه، وهو ما أشارت إليه صحيفة "هآرتس" التابعة للكيان إذ قالت: "إن القضية استخدمت لتوجيه رسالة سياسية، وكان الهدف من توقيفه هو الردع، لإسكات أي انتقادات أو تلميح باحتجاجات ضد السياسة الإسرائيلية".
وقد اعتُقل باروشين بعد أن التزمت شرطة الكيان بسياسة عدم التسامح مطلقا تجاه ما تسميه "التحريض على العنف والإرهاب"، وقد سجلت 48 لائحة اتهام بهذه الجريمة حتى نوفمبر الماضي، وتقوم بالتحقيق بمئات المطبوعات حول تصريحات صدرت بخصوص الحرب.
من جانبها، يائيل نوي مديرة منظمة “الطريق إلى التعافي” غير الحكومية، والتي تضم متطوعين إسرائيليين ينقلون المرضى الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال، من نقاط التفتيش في الضفة الغربية المحتلة، أو من قطاع غزة قبل الحرب، إلى المستشفيات الإسرائيلية، تواصل التصرف وفق قناعاتها، ولكن بتكتم، إذ تقول نوي: “لقد أصبحت أكثر حذراً عندما أتحدث لأنني أعتقد أن الأمر قد يكون خطيراً”، فهم متهمون في محيطهم بـ “العمل مع العدو”، وقد كانت المنظمة تضم 1300 متطوع قبل هجوم حماس، ولكن لم يبق منهم حاليا سوى 400 متطوع.
وفي سياق الرفض ذاته تقدم ضابط إسرائيلي برتبة رائد، باستقالته من منصبه في الجيش، في خطوة هي الأولى من نوعها، منذ الهجوم الذي نفذته حركة حماس على الكيان في السابع من أكتوبر الماضي، إذ تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية، عن أن استقالة الضابط جاءت على خلفية ما وصفه بالفشل الذريع لتعامل المخابرات الإسرائيلية مع اليوم "الأسود".
الخبيرة المصرية الدكتورة رانيا فوزي علقت على الاستقالة بأن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أساءت تقدير الموقف في طوفان 7 أكتوبر، وهو امتداد لفشلها في حرب أكتوبر، مشيرة إلى أن "استقالة أحد الضباط الصغار لا تعني شيئا أمام فشل استخباراتي ذريع للقيادات الإسرائيلية من ذوات الرتب العليا، وفي مقدمتهم رئيس شعبة استخبارات أمان ورئيس الموساد وقيادة المنطقة الجنوبية مع قطاع غزة".
وأوضحت فوزي أن "أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت على علم بالعملية التي ستقوم بها حماس وقد حصلت على العديد من المعلومات في هذا الشأن من مصادر استخباراتية ولكنها فشلت في تقدير الموقف كما حدث بالضبط في حرب أكتوبر، ويأتي ذلك في ضوء الغطرسة الإسرائيلية وعقدة التفوق النوعي، والاستهانة بقدرة أعداء إسرائيل على هزيمتها رغم ضعف قدراتهم العسكرية بالمقارنة مع حجم القدرة العسكرية وقدرات سلاح الجو الإسرائيلي".
وأضافت فوزي إن "هزيمة الاستخبارات الإسرائيلية ليست هي الهزيمة الأولى، ولن تكون الأخيرة، وإن ما تشعر به الاستخبارات وقياداتها مجرد شعور بالإخفاق، ويسعون بشتى الطرق لتبرئة ساحتهم أمام المجتمع الإسرائيلي بالشعور بالتقصير والذنب في الفشل في تقدير الموقف واعتبار دمار غزة وبقائها لـ70عاما حتى يعاد إعمارها هو قمة النجاح الإسرائيلي والانتصار في معركتها أمام المقاومة".
فقادة كيان الاحتلال حصدوا الفشل الذريع في تحقيق أهدافهم بعد أربعة أشهر من الحرب على غزة، وبالتالي خسروا الحرب، فالتدمير والإبادة لن تكون يوما انتصارا، لذا سيعمل الكيان على إسكات أي صوت إسرائيلي سيصدر ضد من شن الحرب على غزة، وضد السلوكات الإجرامية للكيان.