الوقت - تكشف التحركات العدوانية المتصاعدة للكيان الصهيوني - متمثلةً في هجماته الواسعة على قطاع غزة والأراضي اللبنانية خلال العام المنصرم وما يزيد، فضلاً عن عدوانه الأخير على السيادة السورية - عن مخططات استراتيجية خبيثة يحيكها قادة الكيان تجاه منطقة غرب آسيا، مستغلين في ذلك الظروف الراهنة التي تشهدها سوريا، والتي يرون فيها نافذةً ذهبيةً لتحقيق أطماعهم التاريخية.
وفي هذا السياق، يأتي التقرير الذي أصدره "مركز الحبتور للدراسات والأبحاث" ليُسلِّط الضوء على المرامي الخفية والأهداف غير المُعلنة وراء النزعة التصعيدية للكيان الصهيوني في المنطقة، والتي تتماهى بشكلٍ جليٍّ مع المخطط الذي استعرضه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
استناداً إلى هذا المخطط الاستراتيجي، فإن حُلم "إسرائيل العُظمى" ليس ضرباً من الخيال أو محض تصوُّرات واهية، بل هو مشروعٌ استيطاني توسُّعي تبلورت ملامحه الأولى على يد ثيودور هرتزل، المؤسس الفكري للحركة الصهيونية، في رؤيةٍ استعمارية تمتد من ضفاف النيل في مصر حتى نهر الفرات في العراق.
يتضمن هذا المشروع التوسُّعي الاستحواذ على رُقعةٍ جغرافية هائلة، تشمل أراضي شاسعة من مصر وسوريا والعراق والكويت والسعودية، فضلاً عن الاستيلاء الكامل على الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي هذا السياق، أصدرت الأمم المتحدة في عام 2017 تقريراً موثَّقاً يكشف عن استمرار الكيان الصهيوني في سياسة الضمّ التدريجي للضفة الغربية، مع فرض حصارٍ خانق وتهميشٍ ممنهج على الشعب الفلسطيني.
وما يُثير القلق العميق أن جنود جيش الاحتلال الصهيوني، خلال عملياتهم العدوانية في قطاع غزة، يتباهون بارتداء شارات "إسرائيل الكبرى"، في إشارةٍ تنذر باحتمالية توسيع رقعة عملياتهم العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، عقب انتهاء عدوانهم الحالي على غزة.
وقد بدأت الخطوات العملية لتحقيق هذا الحلم التوسُّعي في ديسمبر 2024، حين أقدمت قوات الاحتلال الصهيوني على التوغُّل في مرتفعات الجولان السوري المحتل، حيث شرعت في تنفيذ مشروعات إنشائية وتعبيد طرق استراتيجية على امتداد الشريط الحدودي مع سوريا.
وإذا كانت هذه المشروعات الإنشائية للكيان الصهيوني في الأراضي السورية، تُمثِّل الخطوة الأولى نحو إقامة ممرٍ استراتيجي يربط الأراضي المحتلة بنهر الفرات، فإن ذلك من شأنه أن يُقرِّب تل أبيب خطوات حاسمة نحو تحقيق حلمها التوسُّعي المعروف بـ"إسرائيل الكبرى".
والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه بإلحاح هو، ما هي التداعيات الاستراتيجية والجيوسياسية المُحتملة في حال نجاح الكيان الصهيوني في إقامة هذا الممر الاستراتيجي؟ سنقدم فيما يلي تحليلاً لهذا المشروع الصهيوني الطموح، لنكشف عن حقيقة الحلم التوسُّعي الذي يُراود قادة تل أبيب منذ ثمانية عقود من الزمن.
ما هو الممر المُقترح؟
يتجسَّد المشروع الاستراتيجي الذي يطرحه الكيان الصهيوني في إقامة ممرٍ حيوي يمتد من المرتفعات الاستراتيجية في هضبة الجولان المحتلة، مروراً بالعمق السوري، وصولاً إلى ضفاف نهر الفرات، حيث تُحكِم القوات الكردية - المدعومة أمريكياً - سيطرتها على كامل المناطق الواقعة شرق الفرات، بما فيها الشريط الحدودي السوري-العراقي بأكمله.
وعلى الرغم من الغموض المُتعمَّد الذي يكتنف الموقع الجغرافي الدقيق المُزمع إقامة هذا الممر الاستراتيجي فيه، إلا أن التقارير الاستخباراتية التي تناقلتها وسائل الإعلام التركية، تُشير إلى أن المسار المُقترح سيمتد في الجناح الجنوبي للأراضي السورية، محاذياً للحدود الأردنية، ما سيُتيح للكيان الصهيوني إحكام قبضته الأمنية والاستراتيجية على المناطق المتاخمة للأردن.
وفي حال نجاح هذا المشروع الجيوستراتيجي، سيتمكن الكيان الصهيوني من مدّ نفوذه على رقعة جغرافية واسعة تمتد حتى الحدود العراقية، ويأتي الاختيار الاستراتيجي لموقع الممر بمحاذاة الحدود الأردنية مدفوعاً باعتبارات أمنية وعسكرية بالغة الأهمية، حيث يمنح هذا التموضع الجيوستراتيجي الكيان الصهيوني قدرةً تكتيكيةً متفوقةً على مواجهة التحديات الأمنية المُحتملة التي قد تنبثق من العمق السوري.
المزايا المُحتملة للكيان الصهيوني من إقامة الممر
أولاً: يُعزز هذا الممر الاستراتيجي القناعة الراسخة لدى المستوطنين في الأراضي المحتلة بإمكانية تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى"، ما يُسهم في حشد طاقاتهم للمواجهات المستقبلية، ويوفّر المُسوِّغ المنطقي لتضخيم النفقات العسكرية على حساب القطاعات الحيوية الأخرى، كالتعليم والصحة، حتى لو أدى ذلك إلى تقويض النمو الاقتصادي.
ثانياً: يمنح هذا الممر الاستراتيجي تل أبيب القدرة على ضمّ أراضٍ جديدة وخلق تهديدات أمنية مباشرة لسوريا والعراق، فمنذ تأسيسه عام 1948، تبنَّى الكيان الصهيوني استراتيجيةً عسكريةً توسُّعيةً تقوم على ركيزتين أساسيتين: ضمّ الأراضي الجديدة، ونقل المعارك إلى العمق العربي، وقد أثمرت هذه الاستراتيجية عن احتلال قطاع غزة والضفة الغربية وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان في عام 1967.
ويتمثل الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجية في نقل ساحات المواجهة إلى داخل الأراضي العربية، ما يدفع الدول العربية إلى إعطاء الأولوية لتحرير أراضيها، وتأتي الحرب العدوانية الراهنة لتُعزز استراتيجية إنشاء الممر الجديد، حيث ستُشكّل الأراضي السورية مسرحاً لأي مواجهة مستقبلية بين القوات الصهيونية والسورية، علاوةً على ذلك، فإن التموضع على الحدود العراقية، سيُتيح لتل أبيب تنفيذ عمليات عسكرية وغارات جوية ضد الفصائل الشيعية، وعلى رأسها قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران.
ثالثاً: يُمكن أن يُثمر استحداث هذا الممر الاستراتيجي عن مكاسب اقتصادية جوهرية للكيان الصهيوني، إذ إنه في حال نجح في ترسيخ وجوده على الساحة السورية، سيتسنى له تدشين مسارات تصدير منتجاته إلى المناطق الشرقية التي تخضع للنفوذ الكردي، مع إمكانية استيراد الموارد النفطية والغازية من تلك المناطق بالمقابل.
وتشير التقديرات إلى أن الكيان المحتل يعتزم توظيف هذا المسعى كمنصة وساطة لتصدير النفط والغاز من المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية إلى القارة الأوروبية، عبر خط أنابيب مستحدث يمتد من الأراضي المحتلة مروراً بقبرص واليونان وصولاً إلى أوروبا، بيد أن هذا المشروع الطموح يصطدم بتحديات أمنية بالغة التعقيد من قِبَل تركيا، التي تشهد توترات متصاعدة مع اليونان وقبرص بشأن ترسيم الحدود البحرية، وتتخذ موقفاً صارماً برفض أي عمليات تصدير للموارد النفطية والغازية من المناطق المتنازع عليها في حوض المتوسط.
رابعاً: يمنح هذا الممر الاستراتيجي الكيان الصهيوني، فرصةً سانحةً لإيجاد معضلات سياسية وعسكرية لتركيا، وفي هذا السياق، أدلى جدعون ساعر، وزير خارجية الكيان الإسرائيلي، في نوفمبر 2024 بتصريحات لافتة أكد فيها ضرورة تعزيز العلاقات مع الأقليات في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع التركيز بشكل خاص على الأكراد الذين يُنظر إليهم كحلفاء طبيعيين للكيان الصهيوني، وتدرك تل أبيب تماماً أن تعميق أواصر العلاقات مع الأكراد في سوريا، سيؤدي حتماً إلى تدهور إضافي في علاقاتها مع أنقرة.
غير أن المنظور الأيديولوجي قد يدفع الكيان المحتل نحو المضي قدماً في هذا المشروع، وخاصةً بعد تطبيق تحليل التكلفة والعائد الذي يُظهر رجحان كفة المنافع على المدى البعيد، وفضلاً عن ذلك، يُعزز هذا المشروع المناعة السياسية للكيان الصهيوني في مواجهة التحديات العسكرية الخارجية المنبثقة من دول الجوار، وذلك من خلال توفير أدوات نفوذ تتيح استغلال الأقليات في سوريا، ولا سيما الدروز والأكراد، كأذرع وكيلة تخدم المصالح الإسرائيلية.
التداعيات المرتقبة على الأمن الإقليمي
في حال تمكن الكيان الصهيوني من تحقيق مسعاه في إنشاء الممر الاستراتيجي الجديد على الأراضي السورية، فإن ذلك سيُفضي حتماً إلى تداعيات جوهرية على المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فمن ناحية، قد يُشعل استحداث هذا الممر فتيل حرب واسعة النطاق بين الكيان الصهيوني وسوريا، حيث تتوافر لدى العديد من الفصائل المسلحة المنتشرة على الساحة السورية دوافع عقائدية وقومية راسخة للانخراط في مواجهة عسكرية مع القوات الصهيونية.
ومن ناحية ثانية، يُتيح إنشاء هذا الممر الاستراتيجي للكيان الصهيوني تكثيف دعمه للجماعات الكردية المسلحة، الأمر الذي قد يُمهد الطريق لإقامة كيان كردي مستقل، ما يُعزز بدوره احتمالية تفكك سوريا إلى كيانات متعددة: نفوذ عسكري روسي على سواحل المتوسط، وكيان سُني في المنطقة الوسطى تحت سيطرة جماعات المعارضة، وإقليم كردي في المنطقة الشرقية، غير أن كلاً من تركيا وإيران قد أكدتا مراراً وتكراراً التزامهما الراسخ بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، نظراً لما يجمعهما من مصالح استراتيجية مشتركة في الحيلولة دون قيام كيان كردي مستقل.
وبناءً على هذه المعطيات، من المرتقب أن تُكثّف كل من أنقرة وطهران تنسيقهما المشترك لمجابهة تداعيات هذا الممر الاستراتيجي، وفي حال نجحت تركيا في التوصل إلى تفاهمات مع موسكو، فقد تُقدم على شن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد الفصائل الكردية المسلحة، إلا أن هذا التحرك يبقى رهيناً بانسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية، ومن المتوقع أن تقترن العملية العسكرية التركية، بفرض طوق أمني قد تكون فاعليته محدودةً.
ولضمان منع تدفق الأسلحة إلى شرق سوريا، يتعين على تركيا التنسيق مع الحكومة العراقية لنشر قواتها على امتداد الحدود مع إقليم كردستان العراق وشرق سوريا، وعلى الرغم من هذه الإجراءات الاحترازية، يظل بمقدور القوات الكردية تلقي الإمدادات العسكرية من تل أبيب عبر الممر الجديد، وكمحصلة نهائية، قد تندلع مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا والكيان الصهيوني على الأراضي السورية، إذ قد تستهدف أنقرة خطوط الإمداد العسكري الإسرائيلية الموجهة للقوات الكردية.
المعوقات المحتملة في مسار إنشاء الممر المقترح
على الرغم من المزايا الاستراتيجية الجمة التي قد يجنيها الكيان الصهيوني من وراء إنشاء الممر المقترح، إلا أن تجسيد هذا المشروع على أرض الواقع يصطدم بمنظومة متكاملة من التحديات الجوهرية.
فمن منظور أول، ونظراً للامتداد الجغرافي الشاسع لهذا الممر الذي يمتد لمئات الكيلومترات، سيجد الكيان الصهيوني نفسه مضطراً لإنشاء شبكة متكاملة من القواعد العسكرية لإحكام السيطرة على هذا المحور، وفي هذا السياق، فإن نشر القوات العسكرية على امتداد الطريق دون تغطية من منظومات الدفاع الجوي المتطورة، سيجعل من القوات الصهيونية أهدافاً سهلة المنال للقوات السورية والفصائل الشيعية المسلحة المتمركزة في العراق.
وفي المقابل، فإن نشر منظومات الدفاع الجوي يستلزم استثمارات مالية هائلة، مع عدم ضمان توفير مظلة حماية شاملة للقوات الصهيونية، وبناءً عليه، فإن إنجاح مشروع هذا الممر يستدعي بالضرورة مواصلة وتصعيد العمليات العسكرية ضد حزب الله في لبنان، بهدف تحييد قدراته على استهداف القوات الصهيونية المنتشرة على الأراضي السورية.
ومن منظور ثانٍ، يتطلب تشييد هذا الممر الاستراتيجي موارد مالية ضخمة قد تتجاوز حاجز المئات من ملايين الدولارات، وفي ظل الانحدار غير المسبوق الذي يشهده الاقتصاد الصهيوني إلى أدنى مستوياته في السنوات الأخيرة جراء تداعيات حربي غزة ولبنان، فقد يعجز الكيان المحتل في الوقت الراهن عن تحمل هذه الأعباء المالية الباهظة التي لا تقتصر على تكاليف إنشاء الممر فحسب، بل تمتد لتشمل منظومةً متكاملةً من النفقات تتضمن إقامة القواعد العسكرية، وتركيب أنظمة المراقبة فائقة التطور، وتوفير المنظومات الدفاعية المتقدمة، فضلاً عن ضمان حماية وصيانة المسار بمستويات أمنية فائقة.
إن هذه العناصر، مقترنةً بمتطلبات الدعم اللوجستي والتأمين الحدودي، تُضاعف التكلفة الإجمالية للمشروع بما يتجاوز بكثير مجرد إنشاء مسار نقل تقليدي، ولمجابهة هذا التحدي الجوهري، قد تسعى تل أبيب إلى تطوير البُعد الاقتصادي لهذا الممر بهدف استقطاب الدعم المالي من القوى الغربية.
وتشمل هذه المساعي طرح رؤى استراتيجية حول ضمان حماية الأكراد في حال الانسحاب الأمريكي الشامل من سوريا، وتقييد النفوذ الإيراني في الساحة السورية، والحد من عمليات تهريب الأسلحة عبر الأراضي السورية إلى حزب الله، وفضلاً عن ذلك، قد يستثمر الكيان الصهيوني حاجة أوروبا الملحة إلى مصادر طاقة بديلة، لإقناعها بدعم هذا الممر الاستراتيجي الذي يمكنه نقل موارد النفط والغاز من المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية، إلى القارة الأوروبية عبر الأراضي المحتلة.
کما تُشكّل الفصائل المسلحة السورية، تحدياً استراتيجياً إضافياً لمساعي الكيان الصهيوني في إنشاء هذا الممر، فإذا شرعت تل أبيب في تنفيذ مشروع الممر الجديد، قد يتعرض النظام السياسي السوري المستجد لضغوط هائلة للرد عسكرياً كخطوة أولى، وقد تحظى الهجمات السورية على القوات الصهيونية بدعم تركي مباشر، حيث تعتبر أنقرة أي محاولة إسرائيلية لتقديم دعم مستدام لقوات سوريا الديمقراطية، بمثابة تهديد وجودي لأمنها القومي.
في أكتوبر 2024، أدلى أردوغان بتصريحات لافتة حذّر فيها من احتمالية شن "إسرائيل" هجوماً على تركيا بعد غزة ولبنان، ورغم عدم وضوح الدلالات المباشرة لهذه التصريحات، إلا أنه يُرجح أنها تشير إلى الدعم الإسرائيلي المحتمل للجماعات الكردية المسلحة الناشطة في الساحة السورية.
کذلك، يمثّل الوجود العسكري الروسي في سوريا عائقاً استراتيجياً آخر أمام إنشاء هذا الممر، حتى في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، فقد أكدت موسكو مراراً التزامها بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، كما منعت تركيا من شنّ عمليات عسكرية محدودة ضد القوات الكردية، وعليه، يُتوقع أن تتصدى روسيا بحزم لأي ممر يُشكّل تهديداً لنفوذها في الساحة السورية.
وفي المحصلة النهائية، فإن إنشاء ممر يربط مرتفعات الجولان بشرق سوريا، من شأنه أن يُحدث تحولاً جذرياً في موازين القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، إذ سيتيح للكيان الصهيوني مدّ نفوذه حتى الحدود العراقية، الأمر الذي سيستدعي حتماً تدخلاً فاعلاً من القوى الإقليمية.
وسيؤدي الصراع المستمر إلى مواجهة المشروع لعقبات جوهرية تشمل المقاومة العسكرية والمالية والإقليمية، كما قد يُفضي إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين مختلف الأطراف المتواجدة على الساحة السورية، وبصفة خاصة بين القوات التركية والفصائل الكردية المسلحة.