الوقت - تعتبر عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس يوم 7 أكتوبر الجاري، نقطة تحول في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الکيان الصهيوني، وفي السنوات القادمة ستكتب مقالات كثيرة عن تأثيراتها المختلفة على التطورات الداخلية في فلسطين ومنطقة غرب آسيا.
الآن، بعد مرور 50 يومًا على الحرب الأخيرة في غزة بين حماس والكيان الصهيوني، وبجهود الوسطاء القطريين والمصريين، تم التوصل إلى وقف هش لإطلاق النار لمدة 4 أيام بين الطرفين، لكن هذه الوقفة القصيرة كشفت عن کواليس العديد من القضايا في الصراعات الأخيرة.
خلافاً للدعاية الإعلامية العبرية الغربية الرامية إلى إظهار الجيش الصهيوني منتصراً في قطاع غزة، من أي زاوية ننظر إلى أبعاد هذه الحرب نرى اليد العليا لفصائل المقاومة الفلسطينية التي تمكنت من إلحاق أضرار جسيمة بالکيان الإسرائيلي.
ولذلك، يمكن اعتبار انتصار حماس خلال هذه الفترة بثلاث جولات عملياتية، إنجازاً عسكرياً وسياسياً، من خلال فرض وقف إطلاق النار على تل أبيب.
في الجولة الأولى من هذا النضال، تحقق نصر كبير لحركة حماس خلال تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" التاريخية، حيث هاجم خلالها المقاومون المستوطنات الصهيونية في هجوم مباغت، وتمكنوا من قتل المئات من جنود الجيش الصهيوني وأسر مئات آخرين.
وكان مقتل أكثر من 1200 صهيوني، حسب تل أبيب، وجرح عدة آلاف آخرين، بمثابة ضربة قاتلة لم يسبق لها مثيل منذ قيام الکيان الصهيوني، وإضافة إلى التسبب في خسائر بشرية وضربة أمنية كبيرة، شكلت هذه العملية فشلاً لأجهزة الاستخبارات مثل الموساد والشاباك، التي فشلت في توقع خطة حماس وتفاجأت في 7 أكتوبر، وسيبقى هذا العار في سجلات المخابرات والأمن الصهيوني إلى الأبد.
الجولة الثانية: هزيمة تل أبيب في الهجوم البري
أما النصر الثاني الذي حققته فصائل المقاومة في غزة ضد تل أبيب، فقد تحقق في الهجوم البري الذي شنه جيش هذا الکيان على غزة.
حيث إنه على الرغم من استدعاء 300 ألف جندي احتياطي واستخدام الأسلحة المتطورة، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق النجاح خلال 25 يوماً، وقد ادعت السلطات الصهيونية المتطرفة أن هدفها الرئيسي من الهجوم البري على غزة، هو تدمير حماس واحتلال غزة بالكامل، وأنها ستواصل الحرب حتى تحقيق هذا الهدف، لكنهم عانوا من فشل فادح في هذا الصدد أيضاً.
بعد 50 يوماً من الهجمات الجوية والبرية والبحرية على غزة، يواصل عشرات الآلاف من قوات حماس قتال الکيان الصهيوني في غزة، ولا توجد أخبار عن تدمير هذه المجموعة أو حتى إضعافها، ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من ادعاء الإشراف الاستخباري في غزة، فقد فشل الصهاينة في اكتشاف أنفاق حماس الواسعة.
والقضية الأخرى هي إطلاق سراح الأسرى الصهاينة، وهو الأمر الذي فشل المحتلون في تحقيقه على الرغم من المساعدة الاستخباراتية الأمريكية، لأنهم حتى الآن لم يعثروا على أي أدلة أو وثائق حول مكان اختباء الأسرى، وهذا يدل على أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية ليست خبيرة جداً في عملها، خلافاً للرأي العام، وقد تمكنت حماس من خداع هذه الأجهزة التجسسية والاستخباراتية.
أما فشل الکيان الإسرائيلي الآخر، فكان الخسائر والأضرار العديدة التي لحقت بالجيش الصهيوني خلال هذه الفترة، وحسب الإحصائيات التي أعلنتها كتائب القسام، فقد تم تدمير أكثر من 200 دبابة ومدرعة للکيان خلال الهجمات البرية على غزة.
كما تشير إحصائيات تل أبيب إلى أن نحو 70 جنديًا صهيونيًا قتلوا على يد قوات حماس، وبضم ضحايا 7 أكتوبر، فقد قُتل أكثر من 360 جنديًا حتى الآن.
ورغم أن سلطات تل أبيب تحاول التقليل من عدد الضحايا لتجنب ضغوط الرأي العام، إلا أن وسائل الإعلام العبرية تسرد بشكل أو بآخر حقائق هذه الحرب.
ففي تقرير الفيديو الذي نشره التلفزيون الإسرائيلي مؤخراً، يروي تناقض رواية تل أبيب، ففي هذا التقرير الذي تم تصويره من داخل مقبرة عسكرية إسرائيلية، يؤكد مدير المقبرة أنهم يقومون بدفن جثمان جندي إسرائيلي كل ساعة.
وإذا كان هذا التقرير صحيحاً، فإن نحو 576 جندياً من الجيش الإسرائيلي قتلوا خلال 24 يوماً من الهجمات البرية، وهو ما لا يتفق مع إحصائيات الجيش، ولذلك، فإن تكبد هذا العدد الكبير من الضحايا ضد جماعة مثل حماس، التي لا تقارَن عسكرياً بالکيان الصهيوني، هو هزيمة مخزية لقادة تل أبيب.
ومن ناحية أخرى، فإن الخسائر المالية الناجمة عن حرب غزة تثقل كاهل تل أبيب، وتؤكد التقارير أنه مع استمرار الحرب ستتضاعف الأضرار، وستكون الخسارة الاقتصادية بين 51 مليار دولار و60 مليار دولار، وهي تشمل نحو 10 مليارات دولار من الناتج المحلي الإجمالي للکيان الإسرائيلي.
الجولة الثالثة: النصر الكامل مع وقف إطلاق النار
مثلث انتصار حماس ضد الكيان الصهيوني اكتمل بإقرار وقف إطلاق النار، حيث استطاعت حماس أن تفرض شروطها على الکيان الإسرائيلي، وتجبره على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
في بداية الحرب، ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغيره من المتطرفين، أنه لن يكون هناك وقف لإطلاق النار أو مفاوضات حتى يتم تدمير حماس، لكن بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، أعلنت وسائل الإعلام الصهيونية أن دافيد بارنيا، رئيس الموساد، زار قطر وتباحث مع سلطات هذا البلد حول إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار، ما يدل على عدم الاستقرار السياسي والأمني في الأراضي المحتلة.
إن الخسائر الفادحة للجيش الصهيوني والمسار التآكلي للحرب، أجبر حكومة نتنياهو أخيرًا على التراجع، وكما حدث في الحروب السابقة، وافقت مرةً أخرى على شروط حماس بوقف إطلاق النار.
ومع وقف إطلاق النار هذا، تمكنت حماس من تحرير 150 امرأة وطفلاً فلسطينياً من أيدي الکيان مقابل إطلاق سراح 50 أسيراً، بينهم أجانب، وفي تبادل الأسرى هذا كانت النتيجة 3-1 لمصلحة المقاومة، هذا فيما زعم قادة تل أبيب من قبل أنهم لن يطلقوا سراح أي أسير فلسطيني، وأنهم لن يوافقوا على شروط حماس.
النقطة المهمة هي أن حماس والجهاد الإسلامي لم يطلقوا سراح أي من الأسرى العسكريين الصهاينة، ويشكل نحو 190 أسيراً الذين ما زالوا في أيدي فصائل المقاومة، ورقةً رابحةً في أيدي الفلسطينيين، الذين قال قادة المقاومة إنهم سيطلقون سراحهم إذا تم إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وربما سيجبر مرور الوقت قادة تل أبيب على إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين.
لكن بينما تم تقديم اتفاق تبادل الأسرى على أنه انتصار كبير لحماس، فإن رواية وسائل الإعلام والمسؤولين الصهاينة عن هذا التبادل، ليست سوى قبولاً بالهزيمة من قبل نتنياهو.
كما حاول الجيش الإسرائيلي جاهداً احتلال الجزء الشمالي من غزة على الأقل وإعلان ذلك انتصاراً على حماس، لكنه فشل في هذا السيناريو أيضاً.
وقد أفادت تقارير إعلامية بأن آلاف السكان في شمال غزة عادوا إلى منازلهم فور إقرار وقف إطلاق النار، وبينوا أنه على الرغم من تدمير بيوتهم على يد الغزاة، إلا أنهم غير مستعدين لترك بيوتهم ومساكنهم، وتعتبر عودة سكان الشمال فشلاً أمنياً للجيش الإسرائيلي، الذي لم يتمكن من كسر الإرادة الفلسطينية الفولاذية حتى بقوة السلاح.
من بعد آخر، تمكنت المقاومة في غزة، بالموجة التي أطلقتها، من إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي مرةً أخرى. والآن، خلافاً لادعاءات الصهاينة، الذين يصفون حماس بأنها جماعة إرهابية، يعتبر العالم حماس حرکةً مسلحةً تسعى إلى الحرية وتحارب من أجل تحرير الوطن الأم.
إن تنظيم احتجاجات مليونية حول العالم، وخاصةً في الدول الغربية، دعماً لفلسطين وإدانة لجرائم الکيان الإسرائيلي في غزة، يثبت أن شعبية المقاومة ازدادت لدى الرأي العام والساحة الدولية.
والآن، بالإضافة إلى الدول الإسلامية، يريد الرأي العام العالمي، حتى في الغرب، إقامة دولة فلسطينية ويدين الاحتلال الصهيوني، وكل هذه التطورات تحققت في ظل نضال فصائل المقاومة ضد الکيان الصهيوني.
سياسياً، حققت حماس نجاحاً كبيراً ضد تل أبيب، واستطاعت تعبئة المجتمع الدولي ضد الکيان الصهيوني، وكانت الموافقة على القرار المناهض لـ"إسرائيل" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي أظهر بوضوح العزلة المطلقة للصهاينة في العالم، بمثابة انتصار کبير للمقاومة.
کما أن إقالة مسؤولين مثل وزير الداخلية البريطاني بسبب ضغوط الرأي العام الداعم للشعب الفلسطيني، وكذلك الدعم الواسع الذي يقدمه بعض الوزراء الأوروبيين لأهل غزة، حتى أنهم دفعوا ثمن ذلك بإزاحتهم عن كرسي السلطة، يشير إلى أن مؤيدي فلسطين قد تزايدوا في العالم، وأن الصهاينة هم الذين، على الرغم من قوتهم الاقتصادية والإمبراطورية الإعلامية، يصبحون أكثر كرهًا وعزلةً يومًا بعد يوم.
وفي المقابل، على الصعيد العسكري، حققت حماس إنجازات كبيرة أيضًا، حيث تمكنت من تغيير المعادلات في المنطقة لمصلحة محور المقاومة، ومن الناحية العسكرية، فإن وقف إطلاق النار هو اعتراف الکيان الإسرائيلي غير المباشر بفشل العملية البرية، الأمر الذي يقلل بشدة من الهيبة العسكرية ومصداقية الجيش الصهيوني.
ونظراً للخسائر الفادحة التي تكبدها الصهاينة، فإن حماس أصبحت الآن في موقع عسكري متفوق، حيث تمكنت من هزيمة الجيش الإسرائيلي المدجج بالسلاح، والذي كان يحظى بدعم قوي من الولايات المتحدة والغرب.
ومن ناحية أخرى، فإن جيش الاحتلال، الذي كان حتى وقت قريب ضمن قائمة أقوى جيوش العالم، وكان مسؤولو هذا الکيان يفتخرون به، قد انهار الآن، وصورة تل أبيب شوهت في العالم بسبب الهزيمة من حماس.
وعلى الصعيد الإقليمي، يمكن القول إنه في الأشهر الأخيرة تسارعت وتيرة تطبيع العلاقات بين السعودية والكيان الصهيوني بوساطة الولايات المتحدة، ولکنها خرجت عن مسارها بسبب طوفان الأقصى.
ولذلك، وبسبب جرائم الاحتلال الواسعة في غزة وموجة المعارضة الدولية، فإن السعوديين لن يتحركوا من أجل التطبيع على الأقل، حتى يتم تحديد مصير القضية الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين.
ولذلك، دمرت حماس في هذه الحرب أسس شرعنة التطبيع بشكل كامل، وأحبطت جهود الحكومات العربية التي أرادت الانضمام إلى مشروع التطبيع، ومع الجرائم الأخيرة في غزة، لا بد من القول إن خطة نتنياهو لجلب العرب إلى حضن تل أبيب والخروج من العزلة الإقليمية، لن تبصر النور في حياته السياسية.
ومن بين أوراق انتصار حماس ضد الکيان الإسرائيلي، اشتداد الانقسامات الداخلية في الأراضي المحتلة، والتي تعمقت في الشهرين الماضيين، إن الضغوط الداخلية على حكومة نتنياهو، وخاصةً من عائلات الأسرى، أجبرتها على قبول اتفاق التبادل والهدنة على مضض، وبينت أن حماس، بالإضافة إلى الإجماع العالمي ضد الکيان الصهيوني، عمّقت الفجوة داخل الصهاينة في الأراضي المحتلة.
وحسب استطلاعات الرأي التي أجريت في الأسابيع الأخيرة في الکيان الإسرائيلي، فإن معظم المستوطنين يطالبون نتنياهو بالتنحي عن السلطة، ويعتبرونه المذنب الرئيسي في الأزمة وانعدام الأمن في الأراضي المحتلة.
وتظهر نتائج استطلاع حديث أنه في حال إجراء انتخابات مبكرة، فإن الائتلاف الحاكم للكيان الصهيوني برئاسة نتنياهو سيسقط. والسبب الرئيسي الذي يجعل نتنياهو وفصيله المتشدد في الحكومة لا يريدون أن ينتهي التوتر في غزة قريبًا، هو القلق من عواقبه السياسية في الداخل، لأنهم يعلمون جيداً أن وقف الحرب يعني نهاية حياتهم السياسية، وربما سيضطرون إلى قضاء بقية حياتهم خلف القضبان.
وأخيراً، بالنظر إلى الضيق الاستراتيجي الذي يعاني منه الکيان الصهيوني الآن، ورغم أن السلطات الإسرائيلية زعمت أنها ستواصل الحرب بعد انتهاء وقف إطلاق النار مباشرةً لفترة طويلة حتى القضاء على حماس، لكن بعض المحللين وحتى وسائل الإعلام الإسرائيلية يعتقدون أن الجيش لا يملك القوة اللازمة لمواصلة الحرب بكثافة أكبر، وأن الجولة الرابعة من هذا القتال الدامي ستصاحبها ضربة قاضية كاملة للکيان الإسرائيلي.