الوقت- تتصدر الأزمة الداخلية والصراعات الأخيرة في السودان بين الجيش والجماعة المسلحة المسماة "قوات الرد السريع"، والتي يصفها كثيرون بـ "حرب القوة بين جنرالين"، على رأس أخبار وسائل الإعلام العالمية والإقليمية هذه الأيام.
وضعت هذه الاشتباكات منذ السبت بين الجيش بقيادة "عبد الفتاح البرهان" وقوات الرد السريع بقيادة "محمد حمدان دغلو" الملقب بـ "حميدتي" السودان على شفا توتر كبير، وهو ما يعتقد البعض أنه قد يؤدي إلى حرب أهلية كارثية يكون فيها الناس فقط الخاسرين والضحايا، كما هو دائما.
أصل الأحداث في السودان
تعود قصة الخلافات إلى حقيقة أن الجيش السوداني طالب في الأشهر القليلة الماضية بدمج قوات الرد السريع، التي تعتبر ميليشيا، في الجيش، لكن حميدتي والقوات التابعة له عارضوا هذه الفكرة وأعلنوا أن هذه العملية تحتاج إلى 10 سنوات على الأقل لدمج قوات الرد السريع في الجيش. المشكلة الأساسية أن قوى الرد السريع تجاوزت سلطة الجيش في أدائها، وبالتالي كان الخلاف بين الطرفين حتمياً.
ما هو مؤكد هو أن كلا الجانبين الرئيسيين في هذا الصراع لديهما دوافع وطموحات سياسية خاصة بهما للاستيلاء على السلطة، وعلى هذا الأساس، من المتوقع أن تستمر التوترات إلى أجل غير مسمى. وبالطبع بعض المبادرات قدمت من جهات خارجية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وبعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات لحل أزمة السودان.
لكن المطلعين على الشؤون السياسية في السودان يعرفون أنه لن تنجح أي مبادرة خارجية حتى يجلس الجنرالان البرهان وحميدتي لحل الخلافات. على وجه الخصوص، فإن قوات الرد السريع، كميليشيا وجماعة قبلية، لا تبحث في الأساس عن أي معادلة سياسية وتريد فقط أن تنتصر في الميدان.
عرض هذا الوضع السودان لسيناريوهات خطيرة أبرزها الحرب الأهلية. للتحقق من الاتجاه الذي ستتجه إليه التطورات في السودان وإلى أين سيذهب الصراع على السلطة بين الجنرالين، من الأفضل إلقاء نظرة على تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان.
شهدت جمهورية السودان، منذ استقلالها عن الاحتلال البريطاني عام 1956، سلسلة من الانقلابات العسكرية، ربما كان أبرزها على يد الرئيس السابق لهذا البلد، عمر البشير ضد حكومة الأحزاب الديمقراطية التي كان يرأسها الصادق المهدي عام 1989، والذي مهد الطريق لـ 30 عاما من حكم البشير في السودان.
انقلاب 1957
كان أول انقلاب عسكري شهده السودان في تاريخه عام 1957، أي بعد عام واحد فقط من استقلال هذا البلد. ونفذ هذا الانقلاب مجموعة من ضباط الجيش وطلاب الكلية العسكرية السودانية بقيادة إسماعيل قبيدة ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية في البلاد برئاسة إسماعيل الأزهري. وفشل هذا الانقلاب في مراحله الأخيرة ولم يؤت ثماره.
انقلاب 1958
بعد فترة وجيزة من الانقلاب الفاشل الأول حدث الانقلاب الثاني في السودان. في نوفمبر 1958، قام اللواء إبراهيم عبود بانقلاب على الحكومة الائتلافية في السودان برئاسة إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل. وحدث هذا الانقلاب بعد خلافات كبيرة بين الأطراف السودانية وكان ناجحاً، حيث سلم عبد الله خليل، بالتعاون مع مدبري الانقلاب، السلطة للجيش.
ثورة شعبية عام 1964 ضد الحكومة العسكرية السودانية
بعد الانقلاب الناجح في عام 1958، تولى إبراهيم عبود السلطة لمدة 7 سنوات، وخلال هذه الفترة قام بحل جميع الأحزاب السياسية، حتى أصبح نشر الصحف وأي نشاط إعلامي أو سياسي ممنوع في هذا البلد. وأخيراً في عام 1964 انتفض الشعب ضده وأصبحت هذه الحركة تعرف بـ "ثورة أكتوبر" في السودان.
هذه هي الثورة الشعبية الأولى ضد الحكم العسكري في الوطن العربي، والتي بدأت في 21 أكتوبر 1964، بمؤتمر عقد في الخرطوم عاصمة السودان. وأثناء المواجهة بين الأهالي وقوات الأمن، استشهد الطالب "أحمد القرشي". وخلال مراسم تشييع أحمد القرشي، خرجت مظاهرة كبيرة بحضور 30 ألف شخص ضد الحكومة العسكرية لإبراهيم عبود، واستقال أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السودانية وأعلنوا أنهم لن يعودوا للجامعة حتى موعد تتم الإطاحة بالحكومة العسكرية.
استمرت مظاهرات الجامعات ضد الحكومة العسكرية لإبراهيم عبود وانتشرت في جميع أنحاء السودان. إلى أن أصبح النظام الحاكم غير قادر على السيطرة على شؤون البلاد، وفي 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1964، استقال إبراهيم عبود وسلم السلطة للمدنيين.
انقلاب 1969
بعد نجاح ثورة أكتوبر عام 1964 تولى "سر الخاتم الخليفة" منصب رئيس الوزراء في حكومة انتقالية. لكن هذه الحكومة، مثل حكومة إسماعيل الأزهري، الرئيس السابق لهذا البلد، لم تكن مستقرة بسبب الصراعات السياسية ولم تستطع تلبية مطالب الشعب السوداني.
بعد 4 سنوات من هذه الحكومة، قام العميد الركن جعفر النمري مع مجموعة من الضباط التابعين للحزب الشيوعي والأحزاب القومية العربية بانقلاب على الحكومة الانتقالية في 25 مايو 1969، ونتيجة لذلك تمكن النمري من السيطرة على السلطة لمدة 16 عاما
الانقلابات الفاشلة في السبعينيات
حصلت 4 انقلابات فاشلة في أعوام 1971 و1975 و1976 و1977 ضد حكومة جعفر النمري العسكرية في السودان. كان الانقلاب العسكري الأول على جعفر النمري في 19 يوليو / تموز 1971، والذي عُرف بانقلاب "هاشم العطا". في ذلك الوقت، تولى الرائد هاشم العطا السيطرة على مجلس القيادة في القصر الرئاسي واعتقل جعفر النمري وعدد من الضباط المساعدين له، ثم شكل حكومة مكونة من 7 أشخاص باسم الحكومة الوطنية.
كما تمكنت قوات هاشم العطا من السيطرة على أجزاء من الخرطوم لمدة يومين، ولكن بعد ذلك هاجمتها قوات الجيش المدعومة بقوات أجنبية من مصر وليبيا ومجموعة من المرتزقة البريطانيين وقمعت انقلاب هاشم العطا.
أما الانقلاب الثاني ضد جعفر النمري فقد نفذ في سبتمبر 1975 على يد ضابط بالجيش يُدعى "حسن حسين"، ولم ينجح وتم إعدام جميع المشاركين في هذا الانقلاب.
ثم في عام 1976، حاولت القوى السياسية المعارضة لحكومة النمري الاستيلاء على السلطة، ووقع انقلاب جديد قام به العميد محمد نور سعد في يوليو من هذا العام. ونتيجة لهذا الانقلاب، اندلع صراع دموي بين مدبري الانقلاب وقوات الأمن، أسفر عن مقتل المئات من مدبري الانقلاب وإعدام قائد الانقلاب. وكان آخر انقلاب فاشل ضد حكومة جعفر النمري في 2 فبراير 1977، نفذه 12 من أفراد القوات الجوية السودانية، لكنه فشل.
انقلاب 1985
بعد 16 عامًا من حكم جعفر النمري في السودان، في عام 1985، اندلعت مظاهرة عامة حاشدة ضد هذه الحكومة. وكانت هذه التظاهرة فرصة لـ "المشير عبد الرحمن سوار الذهب" وزير الدفاع والقائد العام للقوات السودانية آنذاك، لإزاحة جعفر النمري بانقلاب عسكري.
بعد هذا الانقلاب، وعد سوار الذهب بأن يتولى الجيش السلطة لمدة عام واحد فقط خلال الفترة الانتقالية، وبعد عام سلم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا برئاسة "الصادق المهدي".
انقلاب 1989
خلال حكم صادق المهدي، كان السودان متورطًا في أزمة اقتصادية كبيرة وفوضى أمنية واسعة النطاق. وعليه، طلبت مجموعة من ضباط الجيش من الحكومة تحسين أوضاع البلاد في أوائل عام 1989.
في 30 يونيو من هذا العام، قاد العميد عمر البشير انقلابًا ضد الحكومة آنذاك بمساعدة الجبهة الوطنية الإسلامية برئاسة حسن الترابي.
انقلاب 1990
على الرغم من أن عمر البشير كان قادراً على الحكم لمدة 30 عاماً، إلا أنه شارك خلال هذه الفترة في العديد من الانقلابات، كان أهمها في أبريل 1990. حيث قام الفريق خالد الزين وقتها برفقة مجموعة قوامها 28 ضابطا بانقلاب على حكومة عمر البشير بهدف إقامة حكومة ديمقراطية، لكن هذا الانقلاب فشل وتم إعدام كل هؤلاء الضباط.
انقلاب 1992
في مارس 1992، تم تنفيذ انقلاب جديد بقيادة العقيد أحمد خالد ضد حكومة البشير، ونسب إلى حزب البعث السوداني، لكن هذا الانقلاب فشل وسجن أعضاؤه.
انقلاب 2021
بعد الانقلاب الفاشل عام 1992، لم يشهد السودان انقلابًا أو تعبئة عسكرية واحتجاجات خاصة حتى عام 2018 عندما طالب الشعب بإقالة عمر البشير. ونتيجة لذلك، شكل "عوض بن عوف"، وزير الدفاع السوداني، مجلسا عسكريا في 11 أبريل 2019، ليحكم البلاد لمدة عام في فترة انتقالية، ثم يتجه نحو إجراء انتخابات.
لكن عوض بن عوف اضطر لإعلان استقالته بعد 24 ساعة فقط من الانقلاب تحت ضغط شعبي، ونتيجة لذلك تولى اللواء عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري.
بعد إجراء سلسلة من المفاوضات الصعبة والمعقدة مع قوى تابعة لقوى الحرية والتغيير (تحالف أحزاب قادت الاحتجاجات الشعبية ضد البشير)، تم التوقيع على وثيقة قانونية بين المجلس العسكري وهذه القوات في آب / أغسطس 2019، تم تشكيل حكومة انتقالية.
واستمر هذا الوضع إلى أن وقعت سلسلة من الانقلابات العسكرية في السودان عام 2021 بهدف الإطاحة بالمجلس الانتقالي. وقع أحد هذه الانقلابات في 11 يوليو، وتم قمعها وإعدام منفذيها البالغ عددهم 12 شخصًا. ووقع الانقلاب الثاني في 24 يوليو / تموز من العام نفسه، واعتقل خلاله "هاشم عبد المطلب" رئيس أركان الجيش كزعيم ومدبر الانقلاب.
في 21 سبتمبر أعلن العميد "طاهر أبو حاجة" المستشار الإعلامي لقائد الجيش السوداني، محاولة اللواء "عبد الباقي حسن عثمان بكراوي" و22 ضابطا وعدداً من الجنود القيام بانقلاب على مجلس الإدارة وتم إحباطه. حيث كانت بعض فلول نظام عمر البشير حاضرة بين مخططي الانقلاب.
حصل الانقلاب الأخير هذا العام وقع في 25 أكتوبر / تشرين الأول، عندما تولى الجيش السوداني بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بهدف السيطرة على الحكومة في انقلاب عسكري. وقام الانقلابيون بالقبض على ما لا يقل عن خمسة من كبار المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة المدنية، في وقت مبكر.
ونقل الانقلابيون عبد الله حمدوك إلى مكان مجهول بعد رفضه إعلان دعمه للانقلاب ودعوته إلى المقاومة الشعبية. كما تم اعتقال غالبية أعضاء حكومة حمدوك وعدد كبير من أنصار الحكومة. دعت جماعات مدنية كبرى، من بينها تجمع المهنيين السودانيين وقوى الحرية والتغيير، إلى العصيان المدني ورفض التعاون مع منظمي الانقلاب. كما نظمت في 25 أكتوبر مظاهرة كبيرة ضد الانقلاب، قوبلت برد قاتل من الجيش. خلال هذه الاحتجاجات، قُتل ما لا يقل عن 10 مدنيين وأصيب أكثر من 140 شخصًا.
بصرف النظر عما إذا كان الانقلاب في السودان هو بالفعل صراع داخلي على السلطة بين جنرالين، أو أن القضية تتجاوز ذلك وأن جهات أجنبية متورطة في فوضى السودان لتحقيق أهدافها ومصالحها، فإن شعب السودان أكبر الضحايا والخاسرين في هذا السيناريو الخطير، شعب لم ير السلام منذ عقود بسبب الانقلابات المتتالية وغياب حكومة فاعلة في أي فترة.