الوقت- يجري الحديث مؤخراً أنّ الولايات المتحدة فتحت تحقيقاً حول جريمة قتل الصحفيّة الشهيرة شيرين أبو عاقلة، الشيء الذي أفرز تساؤلات كثيرة حول توقيت هذا التحقيق، وخاصة أنّ الإدارة الأمريكيّة وعلى رأسها الرئيس الأمريكي جو بايدن، سعت بقوّة لمحاربة أيّ مساع تجاه كشف الجريمة الإسرائيليّة، وعمدت إلى دفن تقارير حول مقتل أبو عاقلة، كما اتُهمت مراراً بأنّها سعت لإنقاذ طفلها المدلل "إسرائيل" من مسؤولية مقتل الصحفية الفلسطينية - الأمريكية، في ظل اتهامات من الفلسطينين بأنّ الموقف الأمريكي من التحقيقات ومحاولتهم تبرئة جيش الاحتلال، وقد فضح التعاطي الأمريكيّ مع تلك القضيّة الموقف الأمريكيّ المتواطئ على الدوام مع الاحتلال وجرائمه، على الرغم من أن الصحفيّة أُعدمت بنيران جنديّ إسرائيليّ من مسافة حوالي 180 مترا وفقاً لتحقيق نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في وقت سابق.
تحقيق أمريكيّ مشكوك
ينظر الجميع للموقف الأمريكيّ بغرابة، لكننا في هذه المنطقة لطالما جربنا خبث ودهاء السياسة الأمريكيّة، فإنّ الولايات المتحدة لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تدين الإسرائيليين الذين يحصلون على كل الدعم من البيت الأبيض وعلى كل الصعد، لهذا لا يمكن أن تقدم أميركا للفلسطينيين إلا ما أثقبت به واشنطن مسامعنا ويدعم الاحتلال والآلة العسكرية للعدو، في وقت يواصل المجرمون الصهاينة قتل وطرد الفلسطينيين وقضم أراضيهم، فأيّ عاقل يقتنع بتحقيق أمريكيّ بعد أشهر طويلة على الحادثة، رغم أنّ واشنطن تسلمت الطلقة التي اغتالت شيرين أبو عاقلة ولديها الكثير فيما يخص تلك القضية.
وإنّ فتح التحقيق الأمريكيّ في هذا التوقيت المتأخر بالذات، لا ينم سوى عن مصالح أو ضغوطات آنية على أكثر من صعيد أولها المنظمات الدوليّة أو وربما للضغط على الصهاينة في بعض الملفات، في تأكيد على قذارة الموقف الأمريكيّ تجاه فلسطين السليبة وبالأخص حول هذه الجريمة التي نفذتها قوات العدو الإسرائيليّ بحق الصحفيّة الشهيرة التي كانت تعمل مراسلة في قناة الجزيرة القطريّة في جنين بالضفة الغربيّة المحتلة أثناء تغطيتها اقتحام العصابات الصهيونيّة لجنين، والتي دفعت العالم بأسره للتنديد بالتصرفات الوحشيّة التي قامت بها القوات الإسرائيليّة، باعتبار أنّ أبو عاقلة عملت مع مجموعة كبيرة من وكالات الأنباء العربية والدولية لتغطية الأحداث الكبرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة ووثقت لسنوات طويلة اعتداءات قوات الاحتلال وجرائمهم.
وفي الوقت الذي رحبت عائلة أبو عاقلة بفتح الولايات المتحدة تحقيقا في ملابسات قتلها، ووصفته بـ "التطور المهم في مسار القضية"، أبلغت تل أبيب واشنطن برفضها التعاون مع أي تحقيق خارجيّ، رغم أنّ تحقيقات محليّة ودوليّة أكّدت بالأدلة والبراهين القاطعة أن شيرين قتلت برصاص القوات الإسرائيليّة أثناء تغطيتها اقتحام مدينة جنين في 11 مايو/أيار الماضي، وقد قدمت تل أبيب للعالم بأسره روايات متضاربة ومخادعة، حيث ادعت في البداية أن الصحفية المعروفة قتلت برصاص مسلحين فلسطينيين، قبل أن تتراجع وتعلن في سبتمبر/أيلول الفائت أنّ هناك احتمالا كبيرا جدا أن تكون قتلت برصاص أطلقه جندي إسرائيلي "عن طريق الخطأ"، حسب زعمها.
ومن الجدير بالذكر أن إذاعة جيش العدو ذكرت مؤخرا أن الأميركيين أبلغوا وزارة العدل التابع للعدو بفتح تحقيق في واشنطن بشأن وفاة مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، مع وجود احتمال طلب مواد للتحقيق في وفاة أبو عاقلة، كما بينت صحيفة "هآرتس" أن الولايات المتحدة أخبرت الكيان الإسرائيلي أنها ستفتح تحقيقا في مقتل مراسلة الجزيرة، وأوضحت أن 57 مشرعا أميركيا بعثوا رسالة إلى مدير الشرطة الفدرالية الأميركية "إف بي آي" (FBI) ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يطالبون فيها بالتحقيق في تلك القضية، باعتبارها مواطنة أميركية لها الحق في الحماية الكاملة التي يتم توفيرها للأميركيين الذين يعيشون في الخارج.
لكن من ناحية أُخرى، من يستطيع أن ينسف تصريحات وزارة الخارجية الأمريكية قبل أشهر، والتي زعمت أن رصاصة انطلقت من موقع إسرائيلي “من المحتمل أنها المسؤولة عن مقتل أبو عاقلة” واستبعادها أن يكون القتل متعمدا، بل نتيجة ظروف زعمت أنّها "استثنائية"، هذا دليل دامغ يؤكّد أنّ النوايا الأمريكيّة لا يمكن أن تكون نزيهة أبداً في هذا الإطار، وإن المساعي الأمريكيّة كانت وما زالت تدور حول التستر على الجريمة الإسرائيليّة الشنيعة التي هزت العالم، على الرغم من أنّ الإعلام الأمريكيّ والغربيّ أكّد أن جنديًا تابعاً لقوات العدو الإسرائيليّ أطلق الرصاص عمداً على أبو عاقله، وهذا واضح من مقاطع الفيديو التي انتشرت عقب مقتل الصحفية، حيث أجمع العالم على شناعة الجريمة التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة بحق الصحفيّة الشهيرة، وحملوا القوات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الجريمة بحق أبو عاقلة التي قضت خلال قيامها بواجبها الصحفي لتوثيق الجرائم المروعة التي يرتكبها الاحتلال.
رفض إسرائيلي طبيعيّ
هل شاهدتم يوماً مجرماً يسوق نفسه إلى الزنزانة، بالطبع لا، هكذا يمكن وصف التعاطي الإسرائيليّ مع قضية أبو عاقلة، والدليل حديث وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أن تل أبيب أبلغت الجانب الأميركي أنها لن تتعاون مع أي تحقيق خارجي، وأنها تقف خلف جنودها، زاعماً أنّ جيش احتلاله أجرى تحقيقا "مهنيا ومستقلا"، وعرض نتائجه كاملة على الجانب الأميركيّ، كما اعتبر في بيان أن "قرار وزارة العدل الأميركية التحقيق في وفاة شيرين أبو عاقلة خطأ فادح"، ووفقاً لموقع "أكسيوس" (Axios) ، ربما يؤدي التحقيق الأميركي بشأن مقتل شيرين أبو عاقلة إلى طلب التحقيق مع الجنود الذين شاركوا في العملية.
أما من ناحية التصريحات المهمة حول هذا الموضوع، وأبرزها وكالة "أسوشيتد برس" فإنّ فتح تحقيق أميركي بشأن الكيان الإسرائيليّ يعتبر أمرا غير مسبوق، متناسيّة أنّ نتيجته ستكون في الغالب داعمة للكيان الغاصب لكنّها ليست أكثر من ورقة ضغط أو لعبة كسر عظم بين المسؤولين الأمريكيين والصهاينة، حيث قيل إن التحقيق الأميركي في التصرفات الإسرائيلية يعتبر "خطوة نادرة قد تزعزع التحالف القوي بين تل أبيب وواشنطن"، وعن تصريح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، الذي قال "إن شيرين لم تكن مواطنة أميركية فحسب، بل مراسلة شجاعة نالت احترام الجميع"، فلا يعدو عن كونه كلام إنشائي لإرضاء الجمهور الأمريكيّ، كما هو الحال مع تصريح السيناتور الديمقراطي كريس فان هولن الذي أوضح أن "هذه الخطوة طال انتظارها لكنها ضرورية لتحقيق العدالة والمحاسبة بمقتل شيرين".
وبالتالي، واشنطن على يقين بأنّ "إسرائيل هي القاتل الأوحد لأبو عاقلة لكن أسباب فتح هذا التحقيق تبدو غامضة قليلاً، والدليل أنّه منذ ارتكاب الجريمة الشنيعة بحق شيرين حاولت تل أبيب والإدارة الأمريكية دفن هذا الأمر، وهي ليست المرة الأولى التي تُظهر فيها واشنطن لا مبالاتها في الموقف من حياة الفلسطينيين وكرامتهم، حيث إنّ تلك القضية بالذات أظهرت حقيقة إرهاب الاحتلال الإسرائيليّ الغاشم ووحشيته، وبينت كعين الشمس مدى استهتار تل أبيب بالإنسانيّة وبالرأي العام العالميّ وبالقيم والأعراف الدوليّة، وما تسببت به من إهانة للكرامة الوطنية للشعب الفلسطينيّ، في محاولة مستميتة للتملص من المسؤولية والتنصل من الجريمة البشعة والافشال المتعمد لجهود محاكمة العدو ومحاسبته على جريمته.
سياسة أمريكيّة ثابتة
على خطأ من يعتقد ولو لحظة أنّ البيت الأبيض يمكن أن يسبب الضرر للكيان الذي يقسم الوطن العربيّ لشطرين ويحتل 3 دول عربيّة، وينفذ كل ما يُطلب منه، في وقت يرى الفلسطينيون أنّه من الخطأ الفادح السماح للولايات المتحدة بالمشاركة في التحقيق نتيجة لتبعيّة الكيان لها، بعد التأكّد بشكل قاطع من قتل "إسرائيل" للصحفيّة، وخاصة أنّ واشنطن غضّت الطرف عن تحقيقات الصحافة الأمريكية التي أجرت تحليلات لأكثر من 60 مقطع فيديو ومنشورًا على وسائل التواصل الاجتماعي وصورًا لجريمة الاغتيال، إضافة إلى فحصين ميدانيين للمنطقة، ناهيك عن التحليلات الصوتية المستقلة لأصوات إطلاق النار، وجميعها التقت عند حقيقة أن التحليل الصوتي لإطلاق النار الذي أدى إلى مقتل الصحفية المعروفة يشير إلى أن شخصاً أطلق عليها الرصاص من مسافة تقريبيّة تطابق المسافة بين الصحفيين ودورية قوات الاحتلال الإسرائيلي التي كانت في المكان، وقد أظهر تحليل الصور المتوافرة ولقطات الفيديو وبيانات شهود العيان، بما لاشك فيه أن جنديا إسرائيلياً هو من أطلق رصاصة الإعدام الميداني.
وكلنا شهدنا مساعي واشنطن لغض الطرف عن كل التحقيقات والأصوات والأدلة التي تدين "إسرائيل" وتحاول كتم صوت القضية العالميّة لتلك لصالح ملفات أخرى، في ظل البراهين والأدلة الكثيرة التي تدين تل أبيب وجنودها القتلة وتحميل الكثير من الدول والمنظمات الدوليّة المسؤوليّة لـ "إسرائيل" وعصاباتها الصهيونيّة في قضية إطلاق النار العمد وقتل أبو عاقلة التي كانت ترتدي زيّ الصحافة ودرعه، وذلك بالتزامن مع محاولات جيش العدو الغاصب تبرئة نفسه من دم أبو عاقلة، في الوقت الذي تجعل الإدارة الأمريكيّة "إسرائيل" تسرح وتمرح على التراب الفلسطينيّ والعربي وترتكب أبشع الجنايات بحق هذا الشعب وغيره في المنطقة.
نتيجة لكل ما ذُكر، حاول الأمريكيون لمدة طويلة تحجيم أو إخفاء قضيّة أبو عاقلة كأنّها لم تكن، لإظهار كيان الاحتلال على أنّه الحمل الوديع، في وقت تُقر فيه منظمات حقوقيّة مهمة حول العالم بأنّ الكيان الصهيوني هو "أبرتهايد" أيّ نظام فصل عنصريّ يرتكب جرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدوليّ من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، وواشنطن لا يمكن أن ترغب بفضيحة أكبر لتل أبيب على الساحة الدوليّة التي تتهم فيها أساسا بانتهاج سياسات تمييز عنصريّ واضطهاد في معاملة الفلسطينيين والأقلية العربيّة في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة.
ومن الطبيعيّ أن يكون موقف البيت الأبيض بهذه القذارة تجاه التحقيقات في مقتل الصحفية شيرين أبوعاقلة، لكن كل ذلك سيصب في محاولة تبرئة الجناة، وهذا بالطبع يجعل من الولايات المتحدة شريكاً أساسيّاً في تلك الجريمة الشنيعة، وخاصة أنّ التاريخ الدمويّ للاحتلال الإسرائيليّ ضد الشعب الفلسطيني كُتب بدم الأبرياء وبمساعدة لا متناهية من أميركا، هذا إذا ما تغاضينا عن غطاء واشنطن السياسيّ الذي توفره للاستعمار الصهيونيّ في المؤسسات الدولية ومنع أيّ لجنة تحقيق من فضح جرائم الاحتلال، وتعطيل القرارات الدولية التي تدينه.