الوقت- وكأنّ الأوروبيون سيخرجون عن صمتهم لإخراج كل ما في صدورهم تجاه أمريكا. فقد شبعت أوروبا من سياسة نصب الأفخاخ التي تُتقنها أمريكا، والتي تكون نتيجتها في كل مرة إيقاع الإتحاد الأوروبي في أزمة جديدة من أجل تحقيق المصالح الأمريكية أو ضرب مصالح قوى أخرى دون مراعاة المصالح الأوروبية. فالمصالح الأمريكية هي الحاكمة في الحلف وميزان السياسة الأمريكية لا يقيس إلا مصالحها.
وقد أدرك الأوروبيون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنّ العقد الذي يجمعهم بالأمريكيين لم يعُد صالحاً في هذه المرحلة ويجب تعديله، فأمريكا لم تعُد كسابق عدها وحسابات الربح والخسارة أثبتت لهم أنّ التبعية لأمريكا في مخططاتها البراغماتية لم تعُد عليهم إلا بالأزمات والمآزق والعداء مع الدول الأخرى، ومحورالمقاومة وحلفائه وعلى رأسمهم روسيا و إيران أثبتوا حضورهم الفعال ودورهم المحوري والاستراتیجی و هذا ما افتقدته أوروبا في العديد من محطات العلاقة مع أمريكا.
وعبارة المدّ والجزر الدائم التي كانت تختصر علاقة أمريكا بحلفائها الأوروبيين، بحيث كان الأوروبيون يشعرون بأنه مغلوب على أمرهم في الرضوخ للسياسة والقرار الأمريكي المتفرد في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، لم تعُد صالحة في هذا الزمان. فهل حان وقت الإستدارة الاوروبية وتغيير مواقفها الإستراتيجية بما يتلاءم والتحوّل الجديد في موازين القوى الدولية؟ وكيف سيكون ردّ روسيا في ظل التودّد الأوروبي لها؟ وما المخطط الأمريكي الجديد لإستعادة ثقة الحلفاء؟
إنّ مسار العلاقات الأمريكية الأوروبية إتخذ منعطفاً جديداً منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، أظهر أمريكا متفردةً في القرار الدولي وصراعات المنطقة، إلا أنها كانت دائماً بحاجة إلى الحليف الأوروبي الذي أمّن الغطاء والمساندة لها في قرارات حروبها وإستعمارها. وقوة الإتحاد الأوروبي مجتمعاً يدفع أمريكا للحفاظ على علاقات دائمة معه. لكن أمريكا شوهت في الكثير من الأحيان معنى التحالف، ولم تراع المصالح الأوروبية بل إنّ الخلافات حول إدارة النفوذ والمصالح في العالم جعل الإتحاد الأوروبي يشعر مدى الرغبة الأمريكية بالسيطرة على القرار الدولي ودول المنطقة حتى لو كان على حساب مصالحه. فلم يتمكن الاتحاد الأوروبي من فرض توجهاته الخاصة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي وغيره من القضايا، حيث اضطر للوقوف خلف السياسات الأمريكية بشكل عام مع بعض التميز المحدود الذي أبدته كل من فرنسا وبريطانيا ولجنة الأمن والسياسة الخارجية. ولعبت العلاقات الأوروبية الأمريكية دوراً مهماً في تحديد السقف الذي يذهب إليه الاتحاد في رسم سياساته المستقلة عن أمريكا تجاه المنطقة .
فالاتحاد الاوروبي وان كان قد وصل إلى مرحلة التكيّف الكامل في ثوابت الحياة الأوروبية ، إلا انه لم ينجح في خلق وحدة سياسية اوروبية تستطيع ان تكون قوة قادرة على تغيير قدرة التفرد الأمريكي نوعاً ما . فحتى القضايا السياسية الأوروبية لا تستطيع هذه الدول التوصل الى حلول مناسبة فيها الا بتدخل أمريكا .
لكن تجربة العلاقة مع أمريكا، التي كانت تعتبر الإتحاد وسيلةً للوصول إلى أهدافها، لم تكن على ما يُرام خاصةً في العقد الأخير، فثقة الإتحاد الأوروبي بأمريكا إهتزت أكثر من مرة، إما من حيث السلوك الأمريكي تجاهها، أم من حيث تراجع الحضور الأمريكي الدولي والإقليمي بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها الجيش الأمريكي في العراق وهزيمة مشروعه في المنطقة خاصة في لبنان وفلسطين وسوريا وفشله في بناء الشرق الأوسط الجديد وضعف أدواته الإسرائيلية والسعودية من تحقيق الأهداف الأمريكية سياسياً وعسكرياً، ولم يكن آخر هذه الأنكسارات الفشل في إخضاع إيران خلال المفاوضات التي حصلت مع السداسية الدولية، وزحف الروس بإتجاه الشرق الأوسط مع تراجع النفوذ الأمريكي فيه دون مراعاة المصالح الأوروبية.
وقد ساءت العلاقات بين الجانبين مرات عديدة ومسار الأحداث خاصة في السنوات الماضية يؤكد أن ما يجمع أمريكا مع حلفائها الأوروبيين ليس سوى مصالح تقوم على أكاذيب، ولا تقوم على الإحترام المتبادل، بل تقوم على المشاركة في العداء ضد روسيا بالتحديد. وهو الأمر الذي يجعل هذه الدول تغض النظر مرغمة عن سلبيات السياسة الأمريكية تجاهها، الى جانب تغاضيها عن الأخطاء الأمريكية التي تترجم نظرة واشنطن البعيدة عن الإحترام تجاه حلفائها. فقضية التجسس الأمريكي على حلفائها في الإتحاد الأوروبي الذي وصفته حينها فرنسا بأنه غير مقبول بين الحلفاء وتحدثت عن أن أمريكا تنصتت على آخر ثلاثة رؤساء فرنسيين، من سنة 2006 إلى 2012 ، يدل على طريقة التعاطي الأمريكية الغير أخلاقية.
فبعدما تأكدت المعطيات حول تجسس واسع النطاق تمارسه وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA ضد العالم ومن ضمن ذلك الاتحاد الأوروبي وقادته مثل الفرنسي فرانسوا هولند والألمانية أنجيلا ميركل، انتفضت دول الاتحاد الأوروبي وخاصة الكبرى منها المانيا وفرنسا ولم يتردد الأوروبيون في اعتبار ذلك بمثابة حرب باردة حقيقية تتعرض لها أوروبا.
ومن جهة أخرى فقد وضعت الأزمة الأوكرانية أوروبا في مواجهة مباشرة مع روسيا، حيث إعتبر سياسيون أوروبين أنّ أمريكا نجحت في إغراق أوروبا في مستقنع يضعفها. والهدف هو الضغط على روسيا من أجل الحصول على تنازل في ملفات الشرق الأوسط، وقطع العلاقات الاقتصادية بين روسيا و أوروبا، خصوصاً كي تفرض على الاتحاد الأوروبي شحناتها من الغاز، علماً أن سعره اعلى بكثير من سعر الغاز الروسي، وأنّ 50% من الطاقة التي تستخدمها أوروبا الغربية تأتي من روسيا عبر أوكرانيا.
فالأوروبيون ينظرون إلى الوضع الإقليمي والدولي وتهديد مصالحهم وأمنهم، ويقيّمون الماضي ويستشرفون المستقبل المليء بالأخطار التي تهدد العالم وخاصة أوروبا، ويرون أنّ الدور الروسي أصبح حاضر أساسي ولاعب لا يمكن البقاء في خصومة أو عداء معهم، بل يجب حلّ المشاكل الخلافية والوصول إلى تعاون مشترك لتسوية الأزمات في المنطة والعالم. فقد قال رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق فرانسوا فيون خلال مقابلة مع قناة "BFM" هذا الأسبوع، "إن داعش تهديد للعالم كما كانت النازية في ذلك الوقت، وكانت آخر مرة تظهر فيه مثل هذه المشكلة في الحرب العالمية الثانية، عندها توحد الغرب مع الاتحاد السوفييتي بقيادة ستالين. وأضاف أن الغرب حينها فعل الشيء الصحيح تماماً بسبب أنه بهذه الطريقة فقط كان بالإمكان هزيمة هتلر ذلك النظام الذي كان سيبقى لفترة أطول بكثير لو كان العكس"، مشيراً إلى أن الوضع الحالي مشابه تماما لزمن هتلر، وأن الغرب يحتاج إلى روسيا لتسوية الأزمة السورية بفعالية.
فكلام فيون يُعبّر عن الحاجة الملحّة للتعاون مع روسيا إنطلاقاً من الأزمة السورية، بعدما أثبت التحالف الدولي فشله وتواطئه.
من جهتها، أعربت رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسي مارين لوبان عن اعتقادها بأن العقوبات المعادية لروسيا كان لها عواقب وخيمة على أوروبا. وأشارت إلى ضرورة تأسيس شراكة وثيقة مع روسيا. وقال سفير بريطانيا الأسبق لدى روسيا توني برينتون الأسبوع الماضي إن الأيام كشفت تقييم موسكو الصحيح للوضع في سوريا، وكذلك لدور اتفاقيات مينسك في تسوية الأوضاع في أوكرانيا، داعياً الغرب إلى الاعتراف بأن أساليبه في حل النزاعات لم تكن ناجحة. وأشار برينتون إلى أن الخط السياسي الذي يسير عليه الغرب هو في الاتجاه الذي يريده بوتين.
كل ما تقدّم يدعو الأوروبيين لتقييم علاقاتهم مع أمريكا وروسيا وإعادة النظر في حسابات الربح والخسارة في ظل تحولات إستراتيجية يشهدها العالم. ومع تنامي الحضور الروسي على الساحتين الإقليمية والدولية وتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط أصبح من المحتّم أن تسعى أوروبا للعب دور أساسي في ظل مشهد أظهر هشاشة وضعف الحضور والموقف الأوروبي في العقد الأخير بسبب تبعيته الخاسرة لأمريكا. فكيف ستكون إستدارة المصالح الأوروبية المقبلة للتعاون مع روسيا؟ وكيف ستتعامل أمريكا مع هذا التحوّل الجديد؟