الوقت- في هذه الأيام، عندما نتصفح الكترونياً المواضيع التي تنشرها وسائل الإعلام الرائدة في العالم، بصرف النظر عن المواضيع المتعلقة بفيروس كورونا والاحتجاجات المناهضة للعنصرية، فإن أكثر ما يلفت الانتباه هو وفرة الاتهامات ضدّ الصين، وبطبيعة الحال، الردود المتبادلة من قبل حكومة بكين ضد هذه الادعاءات دفاعاً عن نفسها.
قد يرى الكثيرون، أنه ربما كانت نقطة الانطلاق لتصعيد التوترات بين واشنطن وبكين، هي تفشي فيروس كورونا داخل أمريكا الذي أدّى إلى ظهور مزاعم أمريكية لاحقاً تفيد بأن الصينيين جعلوا الفيروس يتفشّى عن طريق إخفاء ماهيّة الفيروس؛ المزاعم التي تُوجت في النهاية بأن الصينيين لجؤوا إلى مثل هذه الحيل بالتواطؤ مع الديمقراطيين (أو كما يصفهم ترامب بالـ"اليسار) لإضعاف حملة الحزب الجمهوري).
ولكن إذا نظرنا إلى القضية من فترة زمنية تسبق ذلك، تَظهر لدينا خلافات واسعة وكبيرة بين البلدين، وأقربها ادعاء ترامب بأن الصين تستفيد من الرسوم الجمركية المنخفضة، ما أدى إلى عجز تجاري أمريكي، لقد طغت الخلافات التجارية، المصحوبة أحياناً بتصريحات حادة من قبل ترامب وأحيانًا بتصريحات أقل حدة تجاه نظيره الصيني شي جين بينغ، على العلاقات بين البلدين طوال عام 2019، ولكن على الرغم من مناورة وسائل الإعلام في البيت الأبيض، يجب أن يُنظر إليها على أنها قشر خارجي لخلافات عميقة بين واشنطن وبكين.
ولكن إذا رجعنا بالزمن الى الوراء أكثر، فإن رؤية المنافسة الاستراتيجية بين القوتين الاقتصاديتين العالميتين يتجاوز عالم العمل والتجارة، ويدخل في مجال تغيير ميزان القوى في السياق الجيوسياسي.
الجغرافيا السياسية وإعادة تعريف الأدب الدبلوماسي
منذ اكتشاف القارة الأمريكية، كان عالم السياسة يدور دائمًا حول مطالب الغرب. ولكن في السنوات الأخيرة ، بعد اتباع قانون الطبيعة والتوافق مع اتجاه حركة الأرض، شهدنا دوران العالم السياسي عكس عقارب الساعة، أي من الغرب إلى الشرق، وهو ما يطلق عليه الأدب الدبلوماسي الأمريكي بـ"الدوران باتجاه المحيط الهادئ" والذي ينظُر إلى التطورات الحالية في المحيطيين الهندي والهادئ بنظرة خاصة.
سياسة الدوران باتجاه المحيط الهادئ، التي أضيفت إلى الدبلوماسية الأمريكية منذ رئاسة باراك أوباما (2009-2017) رداً على صعود الصين ونفوذها في شرق آسيا، قدمت منذ البداية، رؤية واضحة للمستقبل التجاري الجيوبوليتيكي للعالم ، وأفادت بأنه على الرغم من تمركز الأزمة في غرب آسيا، تميل القوة على المستوى الدولي إلى جنوب شرق آسيا.
بالطبع، تغير هذا التعريف منذ تولي دونالد ترامب منصبه في يناير 2017 ، لدرجة أنه خلال زيارته إلى آسيا في نوفمبر من العام الماضي، غالباً ما استخدم عبارة "إندوباسيفِك=الهند والمحيط الهادي" المركبة بدلا عن مفردة "باسيفك=المحيط الهادئ".
في غضون ذلك، كان الهدف الرئيس هو تعقيد الوضع في الإقليم الصيني الاستراتيجي، خاصة من خلال إشراك منافس قوي مثل الهند وتشجيعها على زيادة التعاون العسكري مع اليابان وأستراليا.
عندما ننظر إلى المحيط الهندي والهادئ من هذا المنظور، فإن مطالب أمريكا وبعض حلفائها في بحر الصين الجنوبي، ومطالب اليابان في بحر الصين الشرقي، وأخيراً قلق دلهي من المشروع الاقتصادي "طريق واحد حزام واحد" في المحيط الهندي، تؤدي الى إنشاء جبهة واحدة للتضييق على الصين.
الجغرافيا السياسية النووية والمنافسة الاستراتيجية مع الصين
إنّ ميزان القوى مع الصين لم يغيّر الجغرافيا السياسية في العالم فحسب، بل غيّر جغرافيتها النووية أيضًا. عندما كشفت واشنطن عن عقيدة نووية أمريكية جديدة في 2018 ، كان من المفترض أنه في المنافسة الاستراتيجية مع موسكو، أن يكون أساسها روسيا فوبيا.
بعد عام 2019، أكد الانسحاب المفاجئ لأمريكا من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF) مع روسيا هذه النظرية، في حين أنّ ردود الفعل الأولية لحلفاء واشنطن الأوروبيين حوّلت تركيز المنافسة النووية العالمية من موسكو إلى بكين.
وفي الوقت الذي تزامن مع منتصف أغسطس 2019 ، أعرب وزير الخارجية الألماني هايكو موس عن قلقه من انهيار INF ، مدعياً أنّ أي اتفاق "دولي" جديد يجب أن يشمل "الصين" ايضا. وفي الوقت نفسه، أثار رفض أوروبا القبول بالصواريخ الأمريكية متوسطة المدى واحتمال نقلها إلى شرق آسيا (خاصة أستراليا)، توترات دبلوماسية بين واشنطن وبكين، ووصلت هذه التوترات الى ذروتها منذ أوائل عام 2020 بعد إصرار أمريكا على انضمام الصين إلى طاولة المفاوضات بين واشنطن وموسكو خلال تجديد معاهدة نووية أخرى تسمى "ستارت الجديدة". في الواقع، على الرغم من أن ذريعة أمريكا لإنهاء INF ، كما يُزعم ، هي وجود انتهاكات روسية، ولكن ربما كانت الصين هي السبب الرئيس لهذا القرار.
مع تغيّر البيئة الاستراتيجية العالمية بسرعة، تجد أمريكا نفسها في حاجة إلى معاهدات السيطرة على الأسلحة كي تتناسب مع الترسانة النووية الصينية ومخزونات الأسلحة الروسية غير الاستراتيجية ، وحتى ظهور تكنولوجيات جديدة مثل الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. من ناحية أخرى ، فإن توسيع نطاق المعرفة النووية ليشمل دولًا أخرى مثل كوريا الشمالية جعل الوضع أكثر تعقيداً مقارنة بوقت معاهدة INF و"ستارت الجديدة".
يدعي البعض أن الصين تمتلك الآن ترسانة الصواريخ الأكثر تقدماً في العالم، المنتشرة عبر أراضيها الشاسعة. ومع ذلك ، في عام 1987 ، عندما تم تأسيس INF ، لم تكن قدرة بكين الصاروخية كبيرة للغاية. وهناك مزاعم أخرى تقول أن مدى الصواريخ المنتشرة في جنوب شرق الصين تصل إلى تايوان، بينما تغطي الصواريخ المتمركزة في مواقع أخرى، الهند واليابان وحتى القاعدة العسكرية الأمريكية في غوام، وكذلك ما يسمى بسلسلة الجزر الثانية. ومع ذلك، ترفض الصين الانضمام إلى محادثات واشنطن - موسكو لكسر حلقة ضغط واشنطن وحلفائها ضدها، رغم أن ترسانتها النووية لا تزال أقل من ترسانة الولايات المتحدة.
أمريكا وعبور الخطوط الحمراء للصين
لا تتوقف مساعي أمريكا عند إخضاع التنين الأحمر، بميزان القوى في المجالات الاقتصادية والسياسية والنووية والجيوسياسية. على الأقل منذ تولي دونالد ترامب رئاسة البيت الأبيض ، استخدمت أمريكا، من أجل تنفيذ استراتيجية التحول إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، قصارى جهدها لتحريك التيارات الانفصالية في المناطق التابعة للصين، مثل هونغ كونغ وتايوان والتبت، والتشكيك في وحدة الشعب الصيني وتقويض سلطة الحكومة المركزية في بكين.
إن الغاء شروط هونغ كونغ الخاصة في انتهاك قانون الأمن الصيني، والحظر المفروض على المسؤولين الصينيين بحجة منع الوصول إلى منطقة التبت، وبيع الأسلحة إلى تايوان، هي من جملة الأمور التي تهدد سيادة الصين ووحدة أراضيها بالإضافة الى أنها تظهر قوة البحرية الأمريكية في المياه الاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي.
في الوقت نفسه، تواصل الولايات المتحدة زعزعة استقرار البيئة المحيطة بالصين، بما في ذلك خفض القوات الأمريكية في ألمانيا وإرسال عدد منهم إلى المحيط الهادئ، وخطة تزويد قوات المارينز المتمركزة في المنطقة بصواريخ توم هوك وصواريخ بعيدة المدى مضادة للسفن، واعتراف وزير الدفاع الأمريكي مارك سبير بإعادة هيكلة القوات العسكرية في أكتوبر 2020 ، والذي يضمن خفض القوات في مناطق أخرى، بما في ذلك أفغانستان، ونشرهم في آسيا والمحيط الهادئ.