الوقت- لم تعد تركيا بعيدةً عن أجواء ما سُمي بزمن التغييرات. لكن البلد الذي كان ينعم منذ سنوات بالإستقرار، يبدو أنه ونتيجةً لسياسات أردوغان وحزبه، تتجه البلاد من السيء نحو الأسوء، لا سيما بعد أحداث ميدان تقسيم، والتي شكلت منعطفاً في تاريخ تركيا السياسي. فكيف يمكن قراءة المشهد التركي حالياً؟ ولما ستؤول الأمور؟
بين التصريحات والأحداث: قراءة في المشهد التركي اليوم:
في الوقت الذي اتفق فيه عددٌ من المحللين على اعتبار أن ما يحدث في تركيا هو بداية "بذرة الحرب الأهلية"، شدد رئيس حزب الشعوب الديموقراطي، صلاح الدين دميرطاش، على تحذيره من خطر انزلاق الوضع في تركيا لحربٍ أهلية نتيجةً للمعارك الدائرة في المناطق الكردية. من جهةٍ أخرى، يُصر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على موقفه من أنّ ما يقوم به هو حربٌ على الإرهاب. فكيف يمكن أن تكون بذرة الحرب الأهلية، توصيفاً دقيقاً للوضع التركي اليوم؟
إن الحرب الأهلية هي عبارةٌ عن حالةٍ من استخدام العنف المُسلح بين طرفين أو أكثر في دولةٍ معينة. وهو الأمر الذي يمكن أن ينطبق كوصفٍ لحالة الصراع الحاصل في تركيا اليوم. إذ لا يخلو هذا الصراع من صداماتٍ عسكرية وعلى عدة جبهات. فمن جهة تشهد البلاد عملياتٍ لجبهة التحرر الشعبية الثورية، والتي تعود أسبابها للسعي من أجل تحقيق تغييرٍ جذريٍ في سياسات الدولة يأتي ضمن الصراع الحاصل على السلطة. ومن جهةٍ أخرى، تأتي العمليات ضد حزب العُمّال الكردستاني والذي لا يمكن إخفاء سعيه للإنفصال عن الدولة. لنقول أن هذه الصراعات ليس بعيدةً عن الحرب الأهلية. فيما شهدت تركيا منذ أيام، إعلان العديد من المدن والبلديات والتي تقع في المناطق الكردية، الإدارة الذاتية والتي تعتبر خطوة تأتي في إطار السعي نحو الإنفصال.
وفي خضم هذه الصراعات والمعارك المُستعرة بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني، تعرّضت مقار تابعة لحزب الشعوب الديموقراطي لهجمات واعتداءات في إطار ما وصفه الحزب بـ"حملة من التعديّات والهجمات"، والتي يوجِّه فيها الحزب أصابع الإتهام مُباشرة إلى النظام التركي الذي يحكمه أردوغان.
ولم تقف الأمور عند ذلك بل يمكن القول أن الشعب التركي يعيش حالة من الإنقسام الحاد، بدأت نتائجه السلبية تتجلى في الإعتداءات بالجملة ضد مقار حزب الشعوب الديموقراطي، حيث تم إُضرام النيران في أعدادٍ منها، فضلاً عن الإعتداءات التي حصلت على محال وعقارات تعود ملكيتها لأكراد، في مدن ومناطق تركية مختلفة، لتكون بوادر الحرب الأهلية واضحة المعالم في المشهد التركي.
الدلالات والتوقعات: قراءة تحليلية:
إن قراءة المشهد السياسي والأمني في تركيا اليوم، يحتاج لربطه بالمسار السياسي الذي لازم الوضع التركي منذ ما بعد العام 2013 تحديداً. وهنا نُشير للتالي:
- إن الإصرار الذي أبداه أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الإنفراد بالسلطة والحكم في تركيا، أبعد أي محاولةٍ أو إمكانيةٍ للتحالف مع النخب السياسية التركية الأخرى، لا سيما داخل البرلمان في الفترة السابقة. مما أدى للفشل في الخروج بحكومة إئتلافية، قالت المعارضة أن أردوغان سعى لإفشالها من أجل السيطرة على الحكومة والدعوة لتشكيل إنتخاباتٍ قد تعوضه عن خسارته الإنتخابية الأخيرة، وهو ما سيحصل في تشرين الثاني المُقبل.
- من جهةٍ اخرى يرى بعض الخبراء أن أردوغان كان السبب في الحال التي وصلت إليها تركيا اليوم إن على الصعيد السياسي أو الأمني. وهو ما يمكن القول أنه صحيح نتيجة ما نفذه أردوغان من سياساتٍ بدأها بإعلان الحرب على حزب العمال الكردستاني. فقد قام أردوغان بإفتعال أزمة الأكراد بدايةً من خلال خرق الهدنة مع حزب العمال الكردستاني، عبر قصف مواقع تابعة له، مما أدى الى تأجيج الصراع بدلاً من احتوائه. خاصة وأنّ تركيا تخوض على جانب آخر حرباً ضد تنظيم داعش الإرهابي بحسب ما أعلن نظام أردوغان، في حين يبدو أن ذلك كان غطاءاً لتبرير الحرب على الإرهاب وبالتالي تأمين الستار السياسي لضرب الأكراد. خصوصاً أن الوعود الإنتخابية لأردوغان، فضلاً عن البرنامج السياسي لحزبه، أكّدت على أنها ستسير في طريق تحقيق السلام مع الأكراد.
- من جهةٍ أخرى، هدف أردوغان من خلال إشعال الأزمة مع الأكراد، لكسب تأييد الناخبين الأتراك، وبالتحديد المحافظين منهم والقوميين خاصة، الذين قد يشاطرونه الخصومة التي تصل لحد العداء مع حزب العمال الكردستاني وطموحاته بالإنفصال، ما يعزز من فرص حزبه في البرلمان القادم. لكن يبدو أن إتجاه الأحزاب المُحافظة ليست كما يأمل. فقد اتخذ حزب الشعب موقفاً حيادياً، حين أعرب عن قلقه من أن تتحول تركيا إلى عراق جديد أو سوريا جديدة، دون توجيهه أي اتهام أو إلقائه المسؤولية على أي من الطرفين. أما القوميين الممثلين في حزب الحركة القومية، فقد دعوا إلى إعلان حالة الطوارئ مما قد يؤدي لفرض حكم عسكري في مناطق الصراع. وهو ما يفتح المجال للجيش بالنزول إلى الشوارع وهو ما ليس في مصلحة حزب العدالة والتنمية. في ظل إحتدام الصراع المستمر والخفي بينه وبين المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الآخر الذي كان له تبعات ألقت بظلالها على الساحة التركية وبالتحديد التبعات الأمنية.
لا شك أن الوضع في تركيا بعيدٌ كل البعد عن الإستقرار. بل إن الأمور تتجه لمخاضٍ عسيرٍ من غير المعلوم كيف سينتهي. فأردوغان لا يتوانى عن استخدام أو تنفيذ أي سياسةٍ تساعده على فرض سلطته لتوسيع صلاحياته والتفرد في الحكم. لكن اللعب على الوتر القومي من خلال إفتعال الأزمة مع الأكراد الى جانب الصراع مع المؤسسة العسكرية، يُعتبران من المقامرات التي تُضاف الى تاريخ أردوغان وحزبه السياسي، بعد ما قام به من مساعدةٍ للإرهاب لا سيما داعش وفتحه الحدود التركية لها. لنصل الى نتيجةٍ مفادها، أن بوادر الحرب الأهلية التركية واضحة المعالم. فيما يَمضي أردوغان قُدماً من فشلٍ في السياسة الخارجية الى فشلٍ في السياسة الداخلية.