لكن الظروف تغيّرت وأحادية النظام لم تعد صالحة، فالزمن تحوّل وأمريكا التي كانت تفرض ما تريد لم تعُد كذلك، ومحور المقاومة أصبح رقماً صعباً في المعادلة ودور روسيا والصين وغيرهما من القوى الدولية أصبح وازناً وقادراً على معارضة القرار الأمريكي.
فثقة الإتحاد الأوروبي بأمريكا إهتزت أكثر من مرة، إن من حيث السلوك الأمريكي تجاهها أم من حيث تراجع الحضور الأمريكي الدولي والإقليمي بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها الجيش الأمريكي في العراق وهزيمة مشروعه في المنطقة خاصة في لبنان وفلسطين وسوريا وفشله في بناء الشرق الأوسط الجديد وضعف أدواته الإسرائيلية والسعودية من تحقيق الأهداف الأمريكية سياسياً وعسكرياً.
وقد ساءت العلاقات بين الجانبين مرات عديدة ومسار الأحداث خاصة في السنوات الماضية يؤكد أن ما يجمع أمريكا مع حلفائها الأوروبيين ليس سوى مصالح تقوم على أكاذيب، ولا تقوم على الإحترام المتبادل، بل تقوم على المشاركة في العداء ضد روسيا بالتحديد. وهو الأمر الذي يجعل هذه الدول تغض النظر مرغمة عن سلبيات السياسة الأمريكية تجاهها، الى جانب تغاضيها عن الأخطاء الأمريكية التي تترجم نظرة واشنطن البعيدة عن الإحترام تجاه حلفائها. كما أن هذا التغاضي الأوروبي، يدل على أن القيم التي يتغنى بها الغرب ليست سوى أضاليل، للترويج لنفسها كدول تحترم الإنسان، لكنها في الحقيقة تحتقر حقوق المواطن وخصوصياته. وإلا فلماذا تتغاضى معظم الدول الأوروبية عن السياسات الأمريكية التي تناقض مصالح شعوبها، ومنها قضية التجسس الأمريكي على حلفائها في الإتحاد والذي حصل في عدة محطات. حيث وصفت حينها فرنسا التجسس بأنه غير مقبول بين الحلفاء وتحدثت عن أن أمريكا تنصتت على آخر ثلاثة رؤساء فرنسيين، أقله من 2006 إلى 2012.
فبعدما تأكدت المعطيات حول تجسس واسع النطاق تمارسه وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA ضد العالم ومن ضمن ذلك الاتحاد الأوروبي وقادته مثل الفرنسي فرانسوا هولند والألمانية أنجيلا ميركل، انتفضت دول الاتحاد الأوروبي وخاصة الكبرى منها المانيا وفرنسا ولم يتردد الأوروبيون في اعتبار ذلك بمثابة حرب باردة حقيقية تتعرض لها أوروبا.
يقول خبراء بالسياسة الخارجية الأمريكية إن لقضية التجسس الأمريكي إرتباطاً وثيقاً بالعقلية الأمريكية في التعامل وهي تُظهر بوضوح، مدى الإنحطاط في السياسة الأمريكية، ليس فقط من منطلق التعامل إنما من منطلق التفكير بالحليف. إذ أن هناك فرقاً بين إستثمار العلاقات السياسية، وبين إستغلال هذه العلاقات لإضعاف الحليف بأي ثمن كان. فكيف إذا إستخدم الحليف حليفه وأغرقه من اجل ضرب عدوه، وهذا ما حصل في أوكرانيا.
فقد ثبت للحلفاء الأوروبيين أن السياسة الأمريكية قائمة على إستغلال الحليف، من خلال إغراقه بالمشاريع التي تصب في صالح الأمن القومي الأمريكي، وتدخله في دوامة الصراعات القائمة من منطلق مصلحتها وعلى طريقتها، مما يجعله فارغ السياسة الخاصة، وساعياً لسياسة الآخر. لذلك فإن الفضيحة الأمريكية بحق أوروبا، لم تكن لتحصل لو أن الدول الأوروبية أخذت على عاتقها السعي لمصالحها الخاصة، أو أنها وضعت من أولوياتها مصالح شعوبها. لكن الطرف الأمريكي، الذي يتقن فن البراغماتية السياسية، أدخل الأوروبيين في دوامة صراعاته، وكان يستخدم تقنياته التجسسية، للإبتزاز من جهة، ولجمع المعلومات من جهةٍ أخرى، وهما الأمران اللذان يجعلانه يمتلك الحليف، ويحوله الى أداة.
من جانب آخر فإن تضاعف نفوذ أمريكا وتراجعها في المنطقة، وتقدم محور المقاومة وقوى أخرى جعل من الحلفاء الأوروبيين يفهمون أن أمريكا لم تعد كسابق عهدها وأنقرة قرأت جيداً مشهد الخلاف الأمريكي الإسرائيلي الذي يُظهر بشكل واضح الضعف الأمريكي في السيطرة على أداتها المتمردة، وفهمت بوضوح أنّ صديقها الأمريكي لم يعد يسيطر على الأوضاع في المنطقة وباتت بحاجة إلى تحالفات جديدة قد تصبّ في مصلحتها مستقبلاً.
وقد ظهرت في العديد من المحطات وجهات نظر وأولويات مختلفة بين الإتحاد الأوروبي وواشنطن، كانت لعبة المصالح الحاكمة فيها. فشعور الحلفاء بالخيبة والخذلان من السيد الأمريكي أوجد مشهداً سياسياً معقداً تعارضت فيه الأولويات، ووجدت أوروبا نفسها في أزمة تواجه فيها مخاطر حساسة ومرغمةً على المضي في المخططات الأمريكية، وفي الكثير من المحطات الخطرة لم تستطع في خضمها الإعتماد على أمريكا بل تبيّن لها أنّ واشنطن لديها حساباتها ومصالحها الخاصة التي لا تراعي المصالح الأوروبية ولا التهديدات المحيطة بها.
الأمريكيون يحتاجون للتعاون مع أوروبا من أجل تنفيذ مخططاتهم، وميزانهم لا يقيس إلا مصالحهم، وهم لا يستطيعون الخروج من الوحول التي غرقوا فيها دون مساندة دبلوماسية من الأوروبيين الذين أصروا على شرطهم الرئيسي لتعاون فعال وشامل، بإحترام المصالح والأولويات الأوروبية. فبعد تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة والتقارب الغربي الإيراني كيف يرى الأوروبيون مستقبل العلاقة مع أمريكا؟ وما هي حساباتهم لهذه التحولات الجيوسياسية وتأثيرها على الحضور الأوروبي في المنطقة؟ وهل أنّ حلفاء أمريكا أصبحوا يتطلعون إلى الإنفتاح على دول أخرى في ظل تشكّل موازين قوى جديدة في المنطقة بعدما ملّوا من التبعية الخاسرة لأمريكا ؟