الوقت – التطورات الراهنة بشأن العلاقات التركية – الأمريكية تشير إلى أن الخلافات بين البلدين أخذت منحىً تصاعدياً وقد تبلغ التوترات المستوى الذي يصعب من خلاله العودة بأنقرة إلى الخندق الأمريكي - الغربي من جديد.
ولفهم أسباب هذه الخلافات ينبغي العودة إلى الأعوام الأولى في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق (1991)، حيث شهدت العلاقات بين أنقرة و واشنطن تغيّراً واضحاً، وذلك نظراً لزوال خطر الشيوعية الذي شكّل في السابق عدوّاً مشتركاً كان يتهدد البلدين ويعزز الأواصر بينهما.
كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى 3 حقبات زمنية:
الحقبة الأولى: من 1991 الى 2003، فقد شهدت هذه الأعوام تطورات كبيرة في منطقة الخليج الفارسي متمثلة بحرب الخليج الفارسي الأولى حيث شنّ التحالف الغربي هجوماً على نظام "صدام" البائد وذلك رداً على احتلال الأخير للكويت (في الثاني من أغسطس 1990).
في هذه الحرب التي أطلق عليها "عاصفة الصحراء" امتنعت تركيا عن السماح للتحالف الأمريكي باستخدام أراضيها لشنّ الهجوم على الجيش العراقي كما رفضت الالتحاق بـ "الائتلاف الدولي" ضد صدام.
يضاف إلى ذلك، أن رئيس الوزراء التركي آنذاك "نجم الدين اربكان" انتهج مساراً يتعارض وسياسة الحلف الأطلسي عبر تحيزه إلى التيارات الإسلامية.
الحقبة الثانية: تعود إلى الفترة من 2003 وإلى 2011، بدأت هذه الحقبة بالهجوم الذي شنته أمريكا في 1 مايو 2003 وبالتعاون مع بريطانيا إلى جانب تحالف ضمّ عدداً من الدول الأوروبية الرديفة ضد العراق والإطاحة بالنظام البعثي الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي صدام، وبالتالي احتلال هذا البلد، لتتخذ الحكومة التركية في هذه الفترة أيضاً موقفاً معارضاً شديداً من الحرب وأرسلت على إثره قواتها إلى المنطقة الحدودية القريبة من محافظة اربيل شمالي العراق.
ويعزو المحللون أسباب هذا الموقف من جانب أنقرة إلى هواجس الأخيرة من احتمال تأسيس دولة كردية مستقلة وأيضاً مستقبل العراق الضبابي عقب هذا الهجوم.
وعليه فقد تنصلت تركيا من السماح للقوات الأمريكية والبريطانية باستخدام قاعدة انجريك الجوية لهذا الغرض.
ولا تخفى هنا تداعيات التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بعد نهاية عمليات احتلال العراق التي كشف خلالها النقاب عن مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الأمر الذي أضيف إلى سجل الخلافات بين أمريكا وتركيا لكونه شكّل عقبة أمام حلم أنقرة المستدام وتحديداً رجب طيب أردوغان الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء في حينها، بشأن إعادة تأسيس "الامبراطورية العثمانية".
والحقبة الثالثة: بدأت منذ العام 2011 حتى الوقت الحاضر، والتي تمثلت في اختلاف المواقف بين تركيا والغرب قبال تطورات المنطقة ولاسيما "الثورات" التي عصفت بعدد من البلدان العربية، حيث دأبت أنقرة بالتعاون مع الدوحة على تقديم الدعم إلى "جماعة الإخوان المسلمين" في استلام دفة الحكم لدى كل من ليبيا ومصر والمغرب وتونس، الأمر الذي لم يتناغم مع سياسات أمريكا في المنطقة.
كما أن هناك خلافات متصاعدة بين الجانبين (التركي والأمريكي) على خلفية الأزمة السورية، حيث إن الأمريكيين شكلوا حلفاً استراتيجياً مع الاكراد السوريين وقدموا لهم الدعم لتتسع هوة الخلافات بين البلدين أكثر فأكثر.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى التطورات التي حدثت في ديسمبر 2016 عندما قررت تركيا تأسيس منطقة عازلة أمنياً تمتد من شمالي سوريا بمساحة 90 كلم طولاً و50 كلم عرضاً إلى منطقتي اعزاز وجرابلس في محافظة حلب، لتواجه رفضاً صريحاً من جانب أمريكا وغيرها من البلدان الأوروبية، بما تسبب في امتعاض أردوغان من تصرفات حلفائه لدى الحلف الأطلسي "الناتو".
الخلافات التركية – الأمريكية بلغت ذروتها
منذ العام 2016 مرّت العلاقات بين أنقرة وواشنطن بتطورات كثيرة تفاقمت على إثرها الخلافات القديمة بين الجانبين لتبلغ ذورتها اليوم، ومن أهم هذه التطورات يشار إلى:
محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016 للإطاحة بحكومة أردوغان، وقد وجّه الأخير أصابع الاتهام إلى الأمريكيين معلناً أن هذه المحاولة الانقلابية نفذت بقيادة رجل الدين المعارض "فتح الله غولن" الذي ينعم بدعم أمريكي ويقيم في هذا البلد، ومطالباً واشنطن بكل إصرار أن تسلّم الأخير إلى تركيا، وهو ما لقي رفضاً من جانب الأمريكيين.
وخلال الفترة التي تعاقبت على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، اتخذت اأقرة مساراً مغايراً تماماً لما عُهدت به خلال السنوات الأخيرة فيما يخص العديد من القضايا الراهنة في الشرق الأوسط ومنها الازمة السورية، متمثلة في الاقتراب من المحور الإيراني – الروسي.
كما عززت تركيا علاقاتها الاقتصادية مع إيران، ليبلغ حجم التبادل التجاري خلال العام 2017 بين البلدين 8 مليارات دولار مسجلاً زيادة بنسبة 14 بالمئة.
والملفت هنا أيضاً مواقف أردوغان وحلفائه في حزب التنمية والعدالة من "فلسطين" ورفضه لقرارات واشنطن والكيان الصهيوني ولاسيما عقب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأيضاً طرد السفير والقنصل العام "الإسرائيليين" من أنقرة بعد يوم واحد من هذا الإجراء وعلى خلفية المجازر التي ارتكبها الكيان المحتل بحق الفلسطينيين خلال خروجهم في مسيرات "يوم العودة" السلمية.
كما استضافت تركيا بعد 4 أيام من نقل السفارة الأمريكية اجتماعاً طارئاً لمنظمة التعاون الإسلامي والذي خرج ببيان إدانة للاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
هذه الإجراءات التي لجأت إليها حكومة التنمية والعدالة في تركيا خلال الفترة الأخيرة أثارت غضب الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين أكثر من ذي قبل.
والجدير بالذكر في هذه التطورات هي التراشقات الكلامية المصاحبة بالتهديدات بين المسؤولين الاتراك والأمريكيين، وتحديداً التغريدات التي نشرها ترامب مخاطباً فيها نظيره التركي اردوغان ومطالباً إياه بالإفراج عن القس "اندرو برونسون" الذي تعتقله السلطات التركية (منذ ديسمبر 2016).
وقد لقيت تغريدة الرئيس الأمريكي رداً سريعاً على لسان وزير الخارجية التركي "تشافيش اغلو" الذي أكد في تغريدة هو الآخر أن بلاده لن تسمح لأي أحد بأن يملي عليها أمراً كما لن تتحمل التهديدات من أي جانب كانت.
لكن في المقابل قررت وزارة الخزانة الأمريكية في 1 اغسطس 2018 أن تلبي طلب ترامب بفرض العقوبات على وزيري العدل "عبد الحميد غول" والداخلية "سليمان سويلو" التركيين بعد اتهمها بالضلوع في اعتقال القس الامريكي.
لتقوم تركيا (في 8 اغسطس) أيضاً بتجميد أموال وممتلكات وزيري العدل والداخلية التركيين، وما تبعه من قرار ترامب القاضي بفرض الحظر على الليرة التركية ووضع رسوم جمركية بنسبة 20 بالمئة على استيراد الالمنيوم و50 بالمئة على استيراد الصلب من تركيا.
وفي معرض التكهن بشأن مستقبل الخلافات التركية – الأمريكية ينبغي التأكيد على أن جانباً من هذه الخلافات هي جوهرية وتعود إلى الهوية القومية التي يعتزّ بها الأتراك في مقابل الهوية الغربية، كما أنها تنبع من سياسات حزب العدالة والتنمية صاحب التوجه الإسلامي ورئيسه الذي يحمل طموحات توسعية لطالما تعارضت مع سياسات الغرب ومواقف أمريكا الأحادية من هذا البلد.
وعليه فإن المراقبين يرون بأن الخلافات بين تركيا وأمريكا آخذة بالتصاعد، وقد يصل الأمر بها إلى المستوى الذي يصعب من خلاله العودة بأنقرة إلى الخندق الأمريكي والغربي من جديد.