الوقت- تعرضت سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط، لسيلٍ من الإنتقادات، منذ تهديد تنظيم داعش الإرهابي أمن العراق في منتصف العام 2014، وبالتحديد عند سقوط الموصل. لكن ذلك لم يكن الخسارة الوحيدة، فقد فشلت واشنطن في الرمادي، بعد أن أخفقت في تكريت ونحج العراقيون. وحينها توسَّع الإنتقاد ليطال السياسة الأمريكية في كامل المنطقة، من العراق حتى سوريا وصولاً الى اليمن فالدول الخليجية. وهنا لا نتحدث عن سياسة أمريكا، من موقع الترحيب بها، بل نقوم بوصف الواقع السياسي والعسكري الذي ساهم في جعل أمريكا تُعيد النظر في حساباتها وسياساتها. فالإستراتيجية الجديدة التي أطلقها البنتاغون بداية الشهر الحالي، ليست إلا نسخةً مُعدَّلة عن الإستراتيجية الأمريكية لعام 2011. فكيف يمكن شرح الأسباب التي ساهمت في ذلك؟ ولماذا أخفقت واشنطن في العديد من الملفات على الساحة الإقليمية والدولية؟
أولاً: الإدراة الامريكية بين التخبط والفشل:
سعت إدارة الرئيس الأمريكي في المرحلة السابقة للظهور بمظهر من يحقق الإنجازات. لكن المراقب لآليات التعاطي الأمريكي، يُدرك أن واشنطن كانت تعتمد سياسة إدارة الأزمات بشكل ظرفيٍ ويومي. وهو الأمر الذي يدل على حجم الإخفاق في التوقعات والنتائج المرجوَّة. فالمُخطط الناجح هو الذي يعرف كيف يصنع الأسباب التي تؤمِّن له الواقع المُخوَّل تحقيق الأهداف. فيما كانت أمريكا في الفترة الماضية، بعيدة كل البعد عن ذلك، وتعمل وفق النتائج فقط. وهو الأمر الجديد في الأداء الأمريكي، الذي إعتاد أن يكون صانع السياسات وليس مُتلقِّيَها.
فأوباما الذي أخفق في إسقاط النظام السوري على سبيل المثال، أدخل نفسه وإدارته في صراعٍ وإنتقادات منذ العام 2011، نتيجة الفشل في الملف السوري. وإضطر لإبقاء دعمه لما يُسمى بالمعارضة السورية، لإسكات الأصوات السياسية التي تعلو في واشنطن، وتذكره بإعلانه أنه على الرئيس الأسد أن يرحل. إلا أن إنتقاد سياسة أوباما لم يكن فقط فيما يخص الأزمة السورية. بل طال العديد من الملفات الأخرى، كمسألة السعي للإتفاق النووي مع طهران، الى جانب العلاقة مع الحلفاء وبالتحديد السعودية والكيان الإسرائيلي. كما أن إدارته للملف العراقي، وعدم قدرته على فرض هيبة واشنطن في إدراة هذا الملف، جعل الأصوات تعلو أكثر. لا سيما بعد نجاح إيران في دعم الجيش العراقي ولجان الحشد الشعبي، وجعلها قادرةً على تحقيق الإنتصار في وجه الإرهاب. لدرجة بدا فيها الطرف الأمريكي في موقع "الطرف غير الفعال"، الأمر الذي زاد الأمور تعقيداً على واشنطن والإدارة الأمريكية.
ثانياً: توصيفٌ للإستراتيجية الأمريكية السابقة من الناحية العملية:
وهنا نقول أن الفشل الكبير في الإستراتيجية الأمريكية السابقة يعود للأسباب التالية:
- إفتقدت الإستراتيجية السابقة المرونة اللازمة للتصدي للمتغيرات بسرعة. وهو الأمر الذي بدا واضحاً في التعاطي مع الملفين السوري والعراقي بالتحديد. فمن الواضح لدى متابعة ردات فعل واشنطن تجاه التطورات في الملفات الساخنة لا سيما الأزمة السورية، أن الأمريكي وعلى عكس عادته في التخطيط، كان يتعاطى مع مسألة إسقاط النظام بأنها أمرٌ لا بد من حصوله. وهو ما أدى الى خسارته الفادحة نتيجة سقوط رهانه. ولعل الدور الأبرز في ذلك، يعود لإعتماده على الأطراف الخليجية لا سيما السعودية وقطر، الى جانب الطرف التركي. فالتعاطي الندِّي بين السعودية وقطر، وجعلهم الإرهاب أداةً لبسط النفوذ، أدخل الأزمة السورية في مشاكل متعددة الأوجه، تخطت مسألة إسقاط النظام. كما أن الطرف التركي، بحث عن مصالحه الخاصة، وسعى لبسط نفوذه ودوره من خلال تأجيج الأزمة. وهو الأمر الذي أدى الى خروج الأمور عن إرادة المُخطط الأمريكي.
- الى جانب إفتقادها للمرونة، لم تأخذ الإستراتيجية السابقة، حدود القوة الأمريكية بيعن الإعتبار، وهو الأمر الذي أدى الى ذهاب واشنطن للأخير في رهاناتها، دون وضعها أية حسابات أخرى. ولعل الطرف الأمريكي الذي وجد أن بعض ثورات ما سُمي بالربيع العربي، والتي قادها هو، قد نجحت، ظن أن الأمور كذلك في سوريا والعراق، فقام بالمضي قدماً في مشروعه، متجاهلاً العديد من نقاط الضعف التي تعتريه، لا سيما قدرات الأطراف الأخرى على الساحة الدولية كروسيا وإيران. الى جانب تجاهله أوراق الميدان العسكري العملي، والتي إستطاع حزب الله اللبناني ومن خلالها قلب التوازنات.
- وهنا وبناءاً لما تقدم، أخفق أمريكا في استراتيجيته السابقة في إيجاد توازنٍ بين القول والفعل، وهو الأمر الذي أدى الى دخوله في أزمة المصداقية. مما أثر على هيبته، وجعله يراهن على تغيُّراتٍ لم تحصل. ففقد ما يُسمى بالقدرة على السيطرة على مجريات الأحداث. ولم يستطع إعطاء الأولوية لمصالح أمريكا من الناحية العملية، وإن كان سعى لذلك كثيراً.
- وهو الأمر الذي أدخله في مراحل عديدة من الخطر الإستراتيجي، لأسبابٍ كثيرة، أهمها تحوُّل العديد من المهمات المحدودة لواشنطن، الى عملياتٍ واسعة النطاق، دخل من خلالها في حرب إستنزافٍ كبيرة. وهو ما نجحت أيران في إستغلاله، لما في ذلك من مصلحةٍ للشعوب العربية والإسلامية.
ثالثاً: النتيجة، بين المصالح والقدرة
عندما يُخفق المُخطط في تقدير الواقع، يقع في صراعٍ بين المصالح والقدرة. فلمصالح واشنطن حتى اليوم أوجهٌ عدة. يمكن القول أنه على رأسها مسألة النفط وأمن الكيان الإسرائيلي، الى جانب المحافظة على الأدوات الحليفة وبالتحديد الدول الخليجية. لكن أمريكا التي فقدت قدرتها أدخلت الى مصالحها أولويةً تناقض المصالح الأخرى، تتمثل بالسعي للإتفاق مع إيران. وهو الأمر الذي جعلها تظهر بمظهر العاجز أكثر من أي وقتٍ مضى. لتدخل واشنطن في صراعٍ بين المصالح الأمريكية والتحديات التي تواجه تحقيق هذه المصالح. فالتعقيدات التي تعتري القضايا السياسية وبالتحديد في منطقتنا كبيرة جداً. الى جانب أن مصداقية واشنطن مع حلفائها شبه معدومة إن لم نقل مفقودة. وبالتالي، فإن أمريكا اليوم، تعمل وفق سياسة تقليل الخسائر ليس أكثر. وهنا يأتي السؤال الأهم، والذي سنجيب عنه في الجزء الثاني: كيف أخفقت أمريكا في حفظ مصالحها في الشرق الأوسط؟