الوقت - بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها القوات العراقية على الجماعات الإرهابية لاسيّما تنظيم "داعش"، ومع انتعاش الآمال بإمكانية عودة الأمن والاستقرار إلى العراق، برزت أزمة جديدة في هذا البلد تمثلت بإجراء استفتاء بشأن انفصال إقليم كردستان رغم رفض الحكومة العراقية ودول الجوار والمجتمع الدولي. ويرى المتابعون بأن مخاطر هذه الأزمة لاتقل عن أزمة الإرهاب إن لم تكن أسوأ.
ويعتقد الكثير من المراقبين بأن إجراء هذا الاستفتاء من قبل قيادة إقليم كردستان يمثل تطور خطير لأنها لم تأخذ بنظر الاعتبار التداعيات الكارثية التي ستتمخض عن الانفصال في حال تحققه على مستوى الإقليم ودول الجوار وعموم المنطقة.
وتكمن خطورة الاستفتاء ليس في نتيجته فحسب، وسواء أفضت إلى الانفصال من عدمه؛ بل أن القيادة الكردية المتمثلة برئيس الإقليم المنتهية ولايته مسعود بارزاني تسعى إلى ضم مناطق اخرى إلى الإقليم كالمناطق المتنازع عليها وفي مقدمتها محافظة كركوك الغنية بالنفط والتي تضم قوميات ومذاهب متعددة (العرب والتركمان والأكراد والمسيحيين والآشوريين) وغيرهم من الطوائف. كما تسعى لضم مناطق ذات اغلبية كردية من دول الجوار (تركيا وإيران وسوريا).
وعلى الرغم من أن تحقق هذا الأمر ليس بالهيّن، ولكن مع ذلك فإن مجرد التفكير به والسعي لتحقيقه قد يقود العراق والمنطقة إلى صراعات إثنية وعرقية ومذهبية لاتحمد عقباها على المديين القريب والبعيد.
وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة العراقية والبرلمان والمحكمة الاتحادية في هذا البلد قد رفضوا إجراء الاستفتاء في كردستان باعتباره غير مشروع لأنه يتعارض مع الدستور العراقي، بالإضافة إلى أن معظم مكوّنات الشعب العراقي وأحزابه السياسية وقياداته الدينية والوطنية قد أعربت عن خشيتها من الاستفتاء كونه يمهد الأرضية لتقسيم العراق ويزيد من تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلد، خصوصاً وإن مسعود بارزاني والأحزاب والشخصيات الكردية المؤيدة له تسعى لمنح فرص للكيان الإسرائيلي لمد نفوذه في كردستان، الأمر الذي يشكل تهديداً جديّاً للأمن الوطني العراقي وأمن المنطقة برمتها، كما أن الكثير من الأحزاب الكردية وفي مقدمتها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني وحركة التغيير "كوران" كانت قد طالب بإلغاء الاستفاء أو تأجيله على أقل تقدير بسبب الظروف الأمنية المعقدة التي يمر بها العراق، إلى جانب اعتقادها بأن بارزاني يسعى لانفصال الإقليم وفق مقاساته وتصوراته دون الأخذ بنظر الاعتبار وجهات نظر الآخرين في هذا المجال، وكذلك لخشيتها من التداعيات السلبية للاستفتاء في حال تحقق الانفصال على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وللحيلولة دون تحقق أهداف بارزاني والجهات المؤيدة له من خلال السعي لفصل كردستان عن العراق لابدّ لجميع المكوّنات العراقية الرسمية والاجتماعية والدينية الوقوف بقوة إزاء هذا التحرك والتكاتف لحفظ وحدة البلاد ومنع أي محاولة لجرّها من جديد إلى الفوضى وعدم الاستقرار. كما ينبغي لدول الجوار التنسيق والتعاون التام فيما بينها في كافة الميادين لمنع تقسيم العراق تحت أي مسمى.
ويذهب معظم المتابعين إلى أن أمريكا هي التي وقفت وراء استفتاء كردستان لأنها فشلت في توظيف "داعش" وغيرها من الجماعات الإرهابية في تمزيق الشعب العراقي ولذلك توجهت نحو إثارة التفرقة بين العراقيين من خلال الاستفتاء، فيما وصف البعض عملية الاستفتاء بأنها مؤامرة استراتيجية لتوريط المجتمع الكردي عبر إغراقه في أزمات لن يفوق منها إلاّ بعد عقود من الزمان، خصوصاً وإن هذه القضية قد تعقدت حينما اندمجت مع المشروع الصهيوني في المنطقة، مشددين في الوقت ذاته على أن الاستفتاء مخالف للقسم الذي أقسمه الأكراد على وحدة العراق أرضاً وشعباً.
وتجدر الإشارة إلى أن إقليم كردستان سيواجه تحديات كبيرة أخرى في حال انفصاله في مقدمتها رفض دول الجوار الاعتراف به رسمياً كدولة مستقلة، بالإضافة إلى رفضها التعامل معه في كافّة المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية.
وهناك أيضاً توقعات بضعف إقليم كردستان في حال انفصاله، إذ قد يهدد بنشوب العديد من الأزمات، يأتي في مقدمتها بروز صراعات عسكرية بين الفصائل الكردية المسلحة. ودفعت هذه التخوفات المخلصين إلى مطالبة الأكراد برفض الاستفتاء، والبقاء مع العراق باعتباره يمثل الإطار القانوني الصحيح لكافة مكوّنات الشعب العراقي، خصوصاً وأن الأكراد يحصلون على ما نسبته 17 - 25 بالمئة من ميزانية العراق المالية السنوية، كما يشغل الأكراد مناصب مهمة وحسّاسة في العراق في مقدمتها منصب رئيس الجمهورية الذي يتولاه في الوقت الحاضر "فؤاد معصوم" القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني"اليكتي".
ويبدو أن الحل الأمثل لأزمة كردستان العراق يتثمل بإلغاء الاستفتاء والتركيز على تحرير المناطق التابعة للإقليم من عصابات "داعش" والتنسيق التام مع الحكومة المركزية ودول الجوار لتسوية المشاكل العالقة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.