الوقت- لا يختلف اثنان على أن ظاهرة التكفير والفتاوى "الشرعيّة" أضحت اليوم أبرز التحدّيات التي نواجهها، بل و حلقة أساسيّة في سلسلة الهواجس التي تعيشها المنطقة.
إلا حصر هذه الحلقة بالشقّ التكفيري بدءاً من القاعدة، وليس انتهاءً بتنظيم "داعش" الإرهابي، يعدّ أمراً مجانباً للحقيقة، نظراً لوجود جماعات مماثلة لناحيتي الشكل والمضمون على الجانب الإسرائيلي.
ومن خلال قراءة متأنيّة لكيفيّة صنع القرار في الداخل الإسرائيلي، يتّضح الدور الذي تلعبه المؤسسة الدينية الإسرائيلية متمثّلةً بالحاخامات في أوساط مراكز صنع القرار على مختلف المستويات، بخلاف السعي الإسرائيلي لإظهار دولة الاحتلال على أنّها دولة علمانية ديمقراطية، تفصل الدين عن الحكم.
شُبهة العلمانيّة
تُعدّ "علمانيّة" النظام الإسرائيلي إحدى الشبهات التي لا يمكن التغافل عنها. ورغم أن "إسرائيل" نشأت من قبل علمانيين لأسباب تتعلّق بالطبيعة الغربيّة في منتصف القرن الماضي، لكن هؤلاء العلمانيين استندوا إلى أرضية دينية كالدعوة لأرض الميعاد وبناء الهيكل. بعبارة أُخرى، يُعدُّ عامل الدين من أبرز مقوّمات الحركة الصهيونيّة، وبالتالي من غير الصحيح إضفاء الطابع العلماني على نظام الحكم في "اسرائيل" متغافلين عن الطبيعة "الدينية" التي سنتعرّض لها بين ثنايا هذا المقال.
ولكن، لماذا يصرّ الجانب الإسرائيلي على إبراز الصفة العلمانيّة، دون الدينية؟. الإجابة بسيطة وواضحة، لأسباب تتعلّق بالنظام الغربي القائم على فصل الدين عن الحكم خشية أن تُسلب هذه الدولة العنصرية أو دولة الـ "apartheid" الصفة الديمقرطيّة من الداعم الغربي عموماً، والأمريكي على وجه الخصوص.
دور الحاخامات
عوداً على بدء، يضطلع المتدينون في تل أبيب بدور كبير لدی صناع القرار الإسرائيلي، لاسيّما أنّهم أحد مرجعيّات التعيين للقيادات الكبرى في الجيش والمؤسسة الأمنية. ورغم كثرة الشواهد التي تدلّل على دور الحاخامات الرئيسي في عملية صنع القرار السياسي، نكتفي بذكر بعض نماذجها. يمتلك جهاز الموساد "كنس" في إحدى مقرّاته يقودها حاخام يمنح عناصر الموساد المتدينين فتاوى حول شرعية العمليات السرية التي ينفذونها، كما أن الحاخامات تمكنوا من إجبار نتنياهو على تعيين المتدين يورام كوهين رئيسا للشاباك، فعلى الرغم من أن منافس كوهين العلماني كان أجدر منه، إلا أنّ ضغوطاً كبيرة من جانب اليمين الديني والقومي في إسرائيل رجّحت اختيار كوهين.
كذلك، يوضح نائب رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق دان هارئيل إن: "أتباع التيار الديني يقودون معظم الكتائب والسرايا في ألوية النخبة كالمظليون وهناحل وجفعاتي وغولاني وإيغوز وسييرت متكال التي تعتبر أكثر الوحدات نخبوية في الجيش الإسرائيلي. لسنا في وارد سرد الكثير من الأمثلة، بل نكتفي بكلام المعلق العسكري في صحيفة "معاريف، ران إيدليست: "لا يوجد أدنى شك لدي أن الحاخامات يؤثرون على التعيينات في الهيئات القيادية في الجيش لأنهم يريدون أن يصبح الجيش الإسرائيلي جيشا يأتمر بأوامر الشريعة ويعمل وفق فتاوى الحاخامات"، وتضيف الصحيفة نفسها في تقرير آخر: إن الجنرالات في إسرائيل رغم سطوتهم وقوتهم السياسية والعسكرية، إلا أنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار الحرب بمعزل عن القيادات الدينية اليهودية.
لا يقتصر دور الحاخامات على على صناعة القرار السياسي الإسرائيلي، بل يؤدون دوراً واسعاً في تصدير الفتاوى للجيش ضد العرب والمسلمين. كثيرة هي الفتاوى التي أصدرها رجال دين يهود ضد العرب ولتشريع قتل الفلسطينيين بما في ذلك النساء والأطفال، فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر عدد من كبار الحاخامات اليهود المنضوين تحت لواء ما تسمى برابطة حاخامات أرض إسرائيل برئاسة الحاخام دوف ليؤور، في السادس من آذار/ مارس 2008، فتوى تقول إن الشريعة اليهودية تتيح قصف التجمعات السكانية المدنية الفلسطينية وأن التوراة تجيز إطلاق قذائف على مصدر النيران حتى ولو كان يتواجد فيه سكان مدنيون. بعد عام على هذه الفتوى، أصدر الحاخام إسحاق شابيرا كتاب "شريعة الملك"، والذي تضمّن تأصيلاً للعمليات التي يجوز لليهود القيام بها في حروبهم ضد، ومن ضمنها جواز قتل الأطفال الرضع وبقر بطون النساء من غير اليهود، في حال تطلبت المصلحة اليهودية ذلك، وهذا ما يفسّر قيام البعض من المتدينين بحرق الشهيد الرضيع علي الدوابشة. وأمّا في العام 2015، فقد أعلن الحاخام اليهودي "بينتسكوبتشين" أنه يؤيد ويدعم بقوة حرق المساجد والكنائس في مدينة القدس المحتلة. كذلك، أثار الحاخام آيال الذي يتولّى منصب الحاخامية الكبرى للجيش جدلاً واسعاً بعد إباحته اغتصاب النساء غير اليهوديات وقت الحرب وكذلك قتل الأسرى، تماماً كما يفتي البغدادي، كما أنّه سبق لآيال أن أصدر فتوى تجيز للجنود قتل الفلسطينيين المصابين لأنه لا يجوز التعامل مع المسلحين الفلسطينيين على أنهم بشر وإنما حيوانات، على حدّ تعبيره.
يبدو واضحاً الدور الرئيس الذي يضطلع به التيار الديني الإسرائيلي في صناعة القرار والإرهاب على حدّ سواء، قرار يصنعّه الحاخام الديني وينفّذه الجنرال، في حين تدأب السلطة السياسيّة على إظهار الوجه العلماني لغايات سياسيّة معروفة تتعلّق بالداعم الغربي لا أكثر.