حرب غير تقليدية، فلا جيوش ولا ترسانة عسكرية،حرب من نوع جديد سلاحها النفط ، ميدانها الاقتصاد، وهدفها السياسة.ولما كان الاقتصاد والسياسة وجهـين لعمـلة واحدة، استخدم الحلف الأمريكي –السعودي"النفط كسلاح سياسي" لضرب ايران وروسيا على الساحة العالمية، وفي الآونة الأخيرة سجّلت أسعار النفط العالمية انخفاضاً حاداً، فبعدما كان سعر البرميل 100 دولار في منصف العام الحالي وصل إلى ما دون 60 دولاراً في الشهر الجاري، أي خسر النفط ما يقارب 50% من قيمته في غضون ستة أشهر، ما اعتبرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، حرباً باردة تخوضها المملكة النفطية لتحقيق هدفين اقتصادي وسياسي.
الاتفاق الأمريكي السعودي واستراتيجية"ريغن"
الانحدار الكبير في أسعار النفط، جاء في خضم المواجهة بين الغرب وروسيا وإيران بشأن ملفات عدّة، هي الأزمة الأوكرانية وسياسات التوسّع الأوروبية و"الأطلسية" نحو المجال الحيوي الروسي في الجمهوريات السوفياتية السابقة والنووي الإيراني الذي تأجّل بتّ مساره التفاوضي إلى منتصف العام 2015، إضافة إلى الأزمة السورية. ثمة توجّه لدى المحللين الغربيين، أن ما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد من "حرب مضخّات" تستهدف إحداث تغييرات على المستوى الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وأوراسيا، ووصولاً إلى أمريكا اللاتينية. فقد كتب فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" أن الحديث يدور على فرضية اتفاق بين أمريكا والسعودية من أجل خفض أسعار النفط للضغط على موسكو وطهران.
الرسالة التي وجّهها مايكل ريغن، ابن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن الى الرئيس باراك أوباما، تقدّم صورة واضحة لما يجول في ذهن البعض. فقد ذكّر ريغن بالإستراتيجية التي اعتمدها والده في الثمانينيات حين طلب من السعوديين إغراق السوق النفطية لضرب الاتحاد السوفياتي في الصميم، وأوصى باعتماد إستراتيجية مماثلة ضد روسيا إلى أن تصير "عاجزة عن شراء ثيابها الداخلية"، وبالفعل أسهمت زيادة الإنتاج النفطي ابتداءً من العام 1985 إلى هبوط الاسعار من 32 دولاراً للبرميل إلى 10 دولارات وهو ما ساهم في ضرب الاتحاد السوفياتي.
ايرانياً، رغم معاناة اقتصاد البلاد على مدار السنوات السابقة من العقوبات الاقتصادية الدولية، إلا أن طهران نجحت في تحجيم أثار تلك العقوبات الى حد بعيد، والتعايش مع الواقع دون الرضوخ لشروط الولايات المتحدة والدول الغربية وبالتالي التنازل عن حقوقها النووية. اتفاق جنيف في نوفمبر من العام الماضي 2013، دفع بالاقتصاد الايراني خطوة الى الأمام تمثلت برفع جزئي للعقوبات، لكنها سرعان ما تراجع اقتصاد طهران خطوات الى الوراء بعد فشل إيران ومجموعة دول (5+1) في التوصل لاتفاق نهائي في نوفمبر الماضي 2014 حول الملف النووي الإيراني، والانخفاض الكبير في أسعار النفط العالمية.
في ظلّ تعثر إنجاز الاتفاق النووي وفق الشروط الغربية،بعد التأجيل الأخير في نوفمبر الماضي، ثمة مصلحة مشتركة بين السعودية وأمريكا، في تكثيف الضغوط على طهران لدفعها إلى الإذعان للشروط الغربية وبالتالي التخلي عن حقوقها السلمية في الملف النووي. الخشية السعودية من توصل ايران في مفاوضاتها مع الغرب الى نتائج ايجابية تقف وراء السياسة التي تنتهجها المملكة لضرب ايران، فالأسرة الحاكمة في الرياض ترى أي اتفاق مع طهران يحد من طموحاتها الاقليمية، بل سيكون على حساب مصالحها الشرق أوسطية. لذلك یری مستشار مجلس الأمن القومي الأمیرکي السابق والخبير في الشؤون الإيرانیة غاري سيك، أن طهران لا تخطط لصنع السلاح النووي، وأن مخاوف السعودية والکيانالإسرائيلي سببها إمكانية خوض طهران وواشنطن في قضايا إستراتيجية واسعة أکثر من الاتفاق النووي.
في السياق نفسه، ترى السعودية أن الانخفاض في أسعار النفط من يزيد اعباءً الجمهورية الإسلامية الايرانية في ملفاتها الشرق أوسطية، خصوصاً في دعم النظام السوري مالياً بعد فشل التيارات التكفيرية الممولة سعودياً من اسقاط الرئيس الأسد. وترى المملكة أن هذه المعاناة في الملف السوري ستنسحب الى ساحات أخرى في الشرق الأوسط، لا سيما في العراق واليمن، وإن كان هناك عدة مؤشرات تفيد أن الدعم الإيراني لقوى المقاومة من "حزب الله" في لبنان إلى "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، لن يتأثر كونه يمس الأمن القومي الايراني.
أما روسياً، تبدو موسكو الخاسر الأكبر من حرب الأسعار خاصةً أن اقتصادها يعتمد على النفط بشكل كبير( إيرادات روسيا بلغت 416 مليار دولار خلال عام2014)، كما أن حجم الآثار الكارثية التي أحدثها انخفاض أسعار النفط في روسيا لا يمكن حصرها في الأرقام المخيفة التي نتجت عنه، وحجم الزلزال الذي عمق جراح الروبل الروسي، ودفع خسائره لتصل إلى أكثر من نصف قيمته مقابل الدولار منذ بدية العام الحالي، بل يُجمع الإعلام الروسي على اعتبار هذه الحرب حلقة من حلقات ضرب نظام الرئيس فلاديمير بوتين، بعد أن نجح في إعادة روسيا إلى المسرح العالمي كلاعب مؤثر على أكثر من جبهة.
بعد النجاح الجزئي لموسكو في الحد من أضرار العقوبات الغربية عليها بسبب الأزمة الأوكرانية، لجأت أمريكا هذه المرة وعبر الأداة السعودية الى سياسة ريغن القديمة الجديدة لضرب الاقتصاد الروسي ، بغية "تركيع" بوتين في ساحات المواجهة.
السيناتور الأميركي والمرشح السابق للرئاسة جون ماكين وفي معرض اشارته الى إن السعودية مسؤولة عن انهيار الاقتصاد الروسي أكثر من مسؤولية سياسات الرئيس الأميركي باراك أوباما، قال: “علينا أن نشكر السعودية التي سمحت لسعر برميل النفط بالهبوط لدرجة تؤثّر بصورة كبيرة على اقتصاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.
في الختام، تبدو الحرب النفطية الباردة موجّهة من الناحية الجيوسياسية، إلى طرفين أساسيين تتشارك السعودية والولايات المتحدة في العداء لهما، وبما أن التقديرات التي يقدمها خبراء الطاقة تشير إلى أن أسعار النفط لن تعود، خلال العام المقبل، إلى المستوى الذي كانت عليه منتصف 2014، يحضرنا القانون الفيزيائي الشهير “كل فعل له رد فعل مساو له في القوة ومضاد في الاتجاه”، فهل يُخشى من تحول سلاح النفط خلال المرحلة القادمة إلى سلاح فتّاك يقود في نهاية المطاف إلى حروب حقيقية قد تخرج عن السيطرة؟