الوقت- يعيش العالم العربي اليوم واحداً من أقسى فصول المعاناة عبر التاريخ، فربما لم يبلغ مستوى اليأس والخذلان عند المواطن العربي الحد الذي نشهده اليوم، فبعد أحداث "الربيع العربي" التي عوّلت عليها شعوب المنطقة للخروج من حالة الضعف والتشرذم والوصول إلى مرحلة تقف فيها في مصاف الدول المتقدمة في العالم، وجد المواطن العربي نفسه أمام واقعاً أكثر تشرذماً من السابق، حيث تفتت دول وانهارت جيوش وتشتت شعوب وتشرذمت مناطق باكملها وتلاشت اقتصاديات، وتجاوزت اعداد القتلى والجرحى والمشردين واللاجئين والنازحين الملايين من البشر، والأخطر من كل ذلك هو فقدان الأمل بأي أفق للمستقبل للخلاص من هذا الوضع، فالأخوان المسلمين الذين وصلوا إلى الحكم في مصر وتونس وليبيا فشلوا في إدارة البلاد ولم يتمكنوا من تحقيق آمال الشعوب العربية، وبفشلهم هذا فسحوا المجال واسعاً أمام فصيل آخر من الاسلام السياسي هو الأكثر تطرفاً، أي داعش ليصول ويجول في المنطقة ويستقطب بعض فئات الشباب المحبط، ليتحول "الربيع العربي" إلى "ربيع وهّابي" بامتياز، لم يأت منه إلا التطرف والارهاب، ليفقد بذلك المواطن العربي أي أمل له بالاتكاء على الاسلام لتخليصه من عذاباته، وليعود ليرتمي في أحضان الحكام الموالين لأمريكا واسرائيل. من هنا كان لابد من صناعة داعش، وتسويقها كأسطورة للعنف المتمدد، وتقديمها للغرب نموذجاً عن الاسلام، وذلك لضرب الصحوة الاسلامية وعدم السماح لها بالتمدد.
نعم، تم تحويل داعش إلى أسطورة وذلك من خلال اعتماد مبدأ الصدمة، وكان للتمدد السريع والعنف الشديد الذي يمارسه هذا التنظيم، الدور الكبير في تحقيق هذه الصدمة. التمدد الذي لم يحصل لولا تواطئ قوى اقليمية حليفة لأمريكا واسرائيل، فسقوط الموصل الذي شكّل نقطة الذروة لجماعة داعش قد تم بسبب تواطؤ قوى محلية في العراق مع جهات اقليمية على اعطاء أوامر للجيش العراقي للانسحاب وعدم المقاومة، ولا يخفى دور الدول الاقليمية الحليفة لأمريكا في تسهيل دخول الجهاديين الأجانب إلى صفوف داعش في كل من سوريا والعراق وتقديم الدعم المالي والاستخباراتي واللوجستي.
أمّا العنف الذي مارسه داعش فقد فاق كل تصورات العقل البشري، فقد اعتمد التنظيم اسلوب القتل بالجملة، واستخدم اساليب مروعة في عمليات الاعدام، كما جهدت ماكينته الاعلامية في تصوير ومنتجة هذه الأعمال الوحشية لدب الرعب في قلوب الناس. والأمثلة متعددة على ذلك، بدءاً من قتل 1700 طالب من الطائفة الشيعية في قاعدة سبايكر العسكرية في العراق، إلى استباحة جبل سنجار الذي تسكنه غالبية من الديانة الايزيدية، وسبي نسائهم، وصولاً إلى نقمتهم على قبيلة الشعيطات السنية في دير الزور واعدام أكثر من 700 من رجالها، وكذلك فعلوا مع قبائل البونمر السنية في العراق، وتنوعت اساليب القتل بين ذبح وصلب ورجم والقاء من علو شاهق.
أما المحرك لهذه الممارسات فكانت ثقافة التكفير، وهو المبدأ الأنجع للتخلص من الخصوم. في الحقيقة لا يقف في وجه العلاقة والمودة التي تبنيها الشعوب مع بعضها البعض على مدار مئات السنين إلا ثقافة التكفير، التي تجعل من الجار عدواً واجب القتل بدعوى أنه كافر، هذه الثقافة التي تجعلهم يعتقدون أنهم جند الله المختارون، وأن مَن دونهم هم كفار، خلقهم الله ليُقتلوا. ولم تأت ظاهرة التكفير هذه جزافاً، فداعش تشكّل امتداداً للحركة الوهابية التي قامت على أساسها الدولة السعودية، والتي غذتها أمريكا على مدار عشرات السنين واستخدمتها في حربها على الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وما تزال تستخدمها ضد خصوم الولايات المتحدة في ايران وسوريا.
ويقدم داعش خدمة جليلة للغرب من خلال اعطاء صورة مشوّهة عن الاسلام، الاسلام الذي يمنع المرأة من التعليم، ويذبح ويقتل ويصلب ويسبي، ويضرب الناس على الصلاة، ويجلد المدخنين، ويعلم الأطفال حزّ الروؤس، الأمر الذي يسهل على الغرب مهمة ايقاف المد الاسلامي في الدول الغربية، كما يمكنه من شن هجمات عسكرية على الدول الاسلامية ونهب ثرواتها ومقدراتها بدعوى اهداء الديمقراطية للشعوب المسلمة وتخليصها من الشرور.
الجدير بالذكر أن داعش وأخواتها من الجماعات الارهابية المتطرفة لم تقم بأي معركة ضد الكيان الصهيوني، ولا حتى أتت بأي تصريح يدين اسرائيل، فخلال العدوان الأخير على غزة والذي سقط فيه أكثر من 1200 شهيد لم تحرك "دولة الخلافة" ساكناً ولم تقاتل اسرائيل. حيث أن سيوف الدواعش مسلولة دائماً لقتال المسلمين وفقط المسلمين، فتراهم أشداء على المسلمين رحماء بالكافرين.
من ناحية أخرى كان الهدف من صنع أسطورة داعش ضرب الصحوة الاسلامية التي شهدتها الدول العربية، فوجدت الشعوب المسلمة –السنية منها على الخصوص- نفسها بين نموذجين للاسلام السياسي، أحدهما الأخوان المسلمين الذي فشل في إدارة البلاد نتيجة أخطاء وقع بها، والآخر هو داعش والمنظمات الارهابية التي عاثت فساداً في دول المنطقة، الأمر الذي دفع هذه الشعوب إلى الابتعاد عن الخيارات الاسلامية في صناديق الاقتراع وهذا ما بدا جلياً في الانتخابات الأخيرة في تونس.
لا يبدو أن أمريكا وحلفائها جادون في ضرب داعش، فهو يشكل مصلحة هامة لأمريكا والغرب، وأمريكا لا ترغب بتوجيه ضربة قاصمة لهذا التنظيم، كل ما هنالك أنهم يرغبون في تدجين هذا التنظيم، خوفاً من نيرانه التي بدأت تطال بعض مصالحهم في المنطقة، بل إن طائرات التحالف الدولي قامت في وقت سابق باسقاط بعض الذخائر والمعدات بالمظلات لهذا التنظيم. إلا أن القضاء على داعش ليس بالمهمة المستحيلة إن وجدت الارادة من قبل شعوب المنطقة، فداعش لا يتعدى كونه نمراً من ورق، وما معارك جرف الصخر في العراق وعين العرب/كوباني ومطار دير الزور في سوريا إلا أكبر دليل على ذلك. حيث تلقّى داعش ضربات مؤلمة على هذه الجبهات أجبرته على التراجع، فزمن انتصارات داعش قد ولّى، ولم يعد بامكانه تحقيق انجازات واسعة في فترات وجيزة أو الحفاظ على مكتسبات معاركه السابقة.
أخيراً نقول، إن الدول التي تحاول استخدام داعش كأداة لكسب نفوذ هنا أو ابتزاز دولة مجاورة هناك، هي تلعب بالنار، وتُقدم على مغامرة غير محسوبة النتائج وسرعان ما سيرتد السحر على الساحر ويقع ما لم يكن بالحسبان، وعلى دول المنطقة التنسيق والتعاون الجاد فيما بينها للخلاص من هذا الداء الخطير.