الوقت- بعد مرور 103 عاما على توقيع الدولة العثمانية لإتفاقية مع انجلترا بغية الانسحاب من قطر عام 1913، و101 عاما على إنسحابها من الجبهة التي لم تستطع الصمود في وجه القوات الإنجليزية، تعود تركيا اليوم بحلّتها العثمانية الجديدة نحو المستعمرة القديمة تحت غطاء القاعدة العسكرية.
الإتفاقية الموقّعة في ديسمبر الماضي بين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وأمير قطر "تميم بن حمد آل ثاني" تقضي بإستجلاب " 3000 جندي من القوات البرية، إلى جانب وحدات جوية وبحرية ومدربين عسكريين وقوات عمليات خاصة، سيتمركزون في القاعدة "متعددة الأغراض" التي ستكون أول منشأة عسكرية تركية في الشرق الأوسط"، وفق ما أوضح السفير التركي في قطر، "أحمد ديميروك" في وقت سابق.
يمكن قراءة المشهد الخليجي من منظارين مختلفين الأول قطري والآخر تركي. فأما القطري يكمن بحماية "الإمارة الغازية" في مرحلة ما بعد الإنسحاب الأمريكي من المنطقة رغم أن هذا البلد يحوي أكبر قاعدة جوية أميركية في الشرق الأوسط وهي قاعدة "العديد"، حيث يتمركز نحو عشرة آلاف عنصر. إلا أن تراجع الاهتمام الأميركي الملحوظ بالمنطقة بدء بالعراق وليس إنتهاءاً بالبحرين حيث حلّت القوات البريطانية مكانه، قد ينسحب قريباً على قطر التي ترغب بدور أكبر من حجمها، لذلك عمدت إلى إستجلاب القوات التركية القادرة على الوقوف بوجه "الشقيقة الكبرى".
في المشهد الخليجي يبدو هناك إمتعاضاً واضحاُ من الخطوة القطرية حيث ذكر موقع "إنتليجانز أونلاين" الفرنسي، أن الإمارات العربية المتحدة أعربت عن رفضها واستنكارها للإتفاق العسكري التركي- القطري، الذي يقضي بإنشاء قاعدة عسكرية تركية في قطر، وأما السعودية فمن المبكر الحديث عن الخلاف المحتم مع كل من قطر وتركيا، ريثما ترتفع أزمات المنطقة، وتسعى تركيا لتكريس نفسها كزعيمةً للعالم الإسلامي الذي تراه الرياض حكراً لها.
وأما في المشهد التركي، فلا يمكن حصر الأهداف بالغاز القطري أو تسويق القطعات العسكرية التركية، بل يأتي في إطار جهود أنقرة لبسط النفوذ في المنطقة العربية بدءً من سوريا، مروراً بالعراق و وصولاً إلى الصومال حيث تستعد أنقرة، لتأسيس تواجد عسكري لها في خليج عدن الاستراتيجي، وذلك من خلال إنشاء قاعدة عسكرية لها في الصومال، بغية تدريب نحو 10 آلاف و500 جندي صومالي.
الرئيس التركي الذي يتأسى بالدول الكبرى عموماً، وأمريكا على وجه الخصوص عبر إنشار قواعد عسكرية في دول مختلفة، ولاندري السبب الرئيسي في ذلك، فهل هو إنضمام تركيا في عهده إلى الدول الصناعية، أم بسبب تواجدها في حلف الناتو أم أن أحلام السلطان العثماني الجديد تريد إستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، يسعى لتحقيق أهداف إستراتيجية من خلال هذه القواعد العسكرية تتمثل بمواجهة كل من إيران والسعودية. إيران المتهمة بإحتلال أربع عواصم عربية؛ دمشق، بغداد، بيروت وصنعاء، وأما السعودية فتسيطر على العديد من دول الخليج الفارسي، في حين أن أنقرة التي لم تنجح في تمرير مشاريعها "العثمانية" في سوريا، دفعت بأردوغان للقفز بعيداً علّه ينجح في فرض معادلته على الساحة الشرق أوسطيّة.
ولكن ما غاب، أو غُيّب، عن "أردوغان" ان أمريكا بجيشها وأسطولها البحري والجوي فشلت في الصمود امام الهزّات الأفغانية والعراقية، فكيف الحال بتركيا التي تعاني من أوضاع داخلية صعبة، ستزداد مع محاصرة تنظيم داعش الإرهابي الذي لن يجد مكان للفرار سوى الأراضي التركية. لذلك من الأفضل لأردوغان أن يعمل على الوقوف إلى جانب الشعوب التي تملك الكلمة الفصل في أي صراع حالي أو مستقبلي، ولكن هذا ما لا يفقهه "أردوغان" وفق ما لمسناه في تجربته منذ بدء ما سمّي بـ"الربيع العربي".
ما بين المشهدين القطري والتركي يتّضح أن القاعدة العسكرية التركية ليست في وارد حماية قطر، سواءً بسبب التواجد الأمريكي أو بسبب الحجم العسكري التركي، بل تهدف لعسكرة المنطقة وتحقيق الأطماع "الأردوغانية" اذ تحاول أنقرة ترديد عبارة "أنا هنا" في كل التطورات الإقليمية، كحال الدول الكبرى كأمريكا وانجلترا وفرنسا.
في المرحلة المقبلة، ستكون قطر بؤرة لبروز صراعات قطرية خليجية من ناحية، وتركية سعودية من ناحية آخرى، فلطالما إعتبرت الرياض الدول الخليجية المحيطة بمثابة حدائق خلفية وأمامية، إلا أن تقاطع المصالح في كل من سوريا والعراق دفع بالسعودية لغضّ الطرف عن الحضور التركي هناك.
إن تركيا هي الخاسر الأكبر من أي عسكرة للمنطقة، فدينياً تنقسم الكعكة الإقليمية على كل من مصر وإيران والسعودية، وأما قومياً فلا تملك أنقرة مثقال خردلة في المنطقة العربية. بإختصار، ما غاب عن أنقرة والعديد من دول المنطقة، وأتقنته طهران، أن الكلمة الفصل للشعوب لا الحكام.