الوقت - مع وقوع الحادث الإرهابي في منطقة كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، وادعاءات مسؤولي نيودلهي بضلوع الحكومة الباكستانية في هذه الواقعة، دوّت صفارات الإنذار مُنذرةً باندلاع حرب ضروس بين قوتين نوويتين بصورة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، ونظراً لخطورة هذا المشهد وتداعياته، أجری موقع "الوقت" التحليلي حواراً مع السيد “إسماعيل باقري”، المحلل البارز في شؤون شبه القارة، لتسليط الضوء على دوافع الهجوم الإرهابي الأخير في كشمير، والعوامل المؤجِّجة لنار التوترات المستعرة بين الهند وباكستان.
حادثة كشمير ليست عابرةً: ثلاث دلالات محورية
أشار المحلل المختص بشؤون شبه القارة إلى تزامن الهجوم الإرهابي في كشمير مع أحداث أخرى، موضحاً أسباب التوتر قائلاً: "وقع الهجوم الإرهابي في بهلغام بكشمير في لحظة بالغة الحساسية والدقة، إن تزامنه مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي، السيد جي دي فانس، إلى الهند وكذلك عشية الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب نفسه إلى هذا البلد للمشاركة في قمة ‘كواد’، لا يمكن بحال من الأحوال أن يُعزى إلى محض المصادفة أو يُعتبر حدثاً ‘عرضياً’، ولسبر أغوار هذا الهجوم والوقوف على العوامل المؤثرة في تصعيد التوتر بين الهند وباكستان، يتعين علينا التمعن في عدة نقاط جوهرية.
أولاً، يجدر بنا استحضار التاريخ الممتد من التوترات المزمنة بين الهند وباكستان حول قضية كشمير، فهذه المنطقة المتنازع عليها كانت على الدوام بؤرةً للصراع والاضطراب، وتنشط فيها جماعات شتى تسعى إما للاستقلال أو الانضمام إلى باكستان، ونشهد بين الفينة والأخرى هجمات دامية في هذه البقعة الملتهبة، حيث تتهم الهند عادةً باكستان بدعم هذه الجماعات وإيوائها، رغم نفي إسلام آباد المستمر لهذه الاتهامات.
ثانياً، توقيت هذا الهجوم ينطوي على دلالات عميقة، فزيارة مسؤول أمريكي رفيع المستوى إلى الهند، في خضم التنافس الجيوسياسي الإقليمي المحموم ومساعي واشنطن الحثيثة لتعزيز العلاقات مع نيودلهي كثقل موازن في مواجهة بكين، تكتسي أهميةً استثنائيةً، ويذهب بعض المحللين إلى أن الغاية من هذا الهجوم، قد تكون خلق مناخ مضطرب وبيئة مفعمة بالقلق والاضطراب في المنطقة لتحقيق مآرب محددة.
ثالثاً، ردود الفعل الأولية على هذا الهجوم تستوقف المتأمل، فالإدانة الواسعة لهذا العمل من قبل طيف واسع من القادة الدينيين والسياسيين في كشمير، حتى من الجماعات ذات التوجهات المناهضة للهند، تشير بوضوح إلى أن هذا الهجوم لا يحظى بتأييد شعبي محلي، ومع ذلك، للأسف، سارعت بعض وسائل الإعلام والجماعات الهندوسية المتطرفة في الهند، إلى توجيه أصابع الاتهام نحو مسلمي كشمير والمطالبة بالانتقام، ما أجّج بشدة مناخاً معادياً للإسلام ولكشمير في الهند".
بصمات خارجية في الأزمة
وفي محور آخر من حديثه، أماط باقري اللثام عن دور اللاعبين الخارجيين في هذه التوترات قائلاً: "للأسف، تتجلى بصمات بعض القوى الدولية في هذه النزاعات بوضوح لا يخفى على ذي بصيرة، وكما ورد في التقارير، يرجّح كثيرون أن الغاية من مثل هذه الأعمال هي بث بذور الفتنة وجني ثمار المصالح الخاصة، ويمكن تفسير زيارة نائب ترامب ومساعي الولايات المتحدة الدؤوبة لتعزيز العلاقات مع الهند في مواجهة الصين، ضمن هذا الإطار.
كذلك، فإن الإشارة إلى تعاطف مسلمي كشمير مع أشقائهم الفلسطينيين وإدانتهم الصارمة للجرائم الإسرائيلية في غزة، وتزامن ذلك مع هذا الهجوم الإرهابي الذي لقي فيه إسرائيلي حتفه أيضاً، قد يميط اللثام عن أبعاد أخرى لهذه التعقيدات المتشابكة، ويرجّح بعض المراقبين أن الغاية من هذا الهجوم قد تكون طمس هذا التعاطف، وإحداث شرخ عميق بين المسلمين والمجتمعات الأخرى في أرجاء المنطقة".
الجذور التاريخية لأزمة كشمير
وعدّ هذا المحلل المختص بشؤون شبه القارة، الخلفية التاريخية أساساً للنزاعات بين الهند وباكستان، مضيفاً: "تتشابك عوامل متعددة في تصعيد التوترات الأخيرة بين الهند وباكستان، أولاً، تظل قضية كشمير ذات التاريخ الضارب في أعماق الزمن، العامل الجذري للتوتر، وأي حدث في هذه المنطقة المضطربة، يمكن أن يتحول بسرعة البرق إلى أزمة مستعصية بين البلدين، ثانياً، أفضت الاتهامات المتبادلة بين نيودلهي وإسلام آباد بشأن دعم الجماعات الإرهابية، إلى خلق هوة سحيقة من انعدام الثقة، ما جعل مساعي خفض التوتر تواجه عقبات كأداء، ثالثاً، أوجد نشاط الجماعات المتطرفة على ضفتي الحدود وإذكاء المشاعر الدينية والقومية، مناخاً مسموماً يقوّض أركان أي مصالحة أو تفاهم، رابعاً، يمكن لتدخل اللاعبين الخارجيين ومساعي القوى الدولية لصياغة المعادلات الإقليمية وفق مصالحها، سواء أكان ذلك عن غير قصد أم بصورة متعمدة، أن يؤجّج لهيب هذه التوترات.
وأضاف: “النقطة الخامسة التي تضع حكومتي البلدين تحت ضغط هائل لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً وصرامةً، هي ردود فعل وسائل الإعلام وتأجيج الرأي العام من خلالها وعبر منصات التواصل الاجتماعي، سادساً، قد يُفسر تزامن الهجوم الإرهابي الأخير مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي وعشية الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب نفسه إلى الهند، من قبل بعض الأطراف، كمؤشر دالّ على دعم أو تدخل خارجي، ما يزيد من حدة الريبة وانعدام الثقة، وثمة قضايا أخرى تلعب دوراً غير مباشر لكنه بالغ التأثير في مستوى التوترات بين الهند وباكستان، وهي كيفية تعامل البلدين مع طالبان أفغانستان”.
طالبان وطالبان باكستان: لاعبان مؤثران في خارطة الأزمة
وأماط هذا الخبير في شؤون شبه القارة اللثام عن دور حركة طالبان باكستان (TTP) كمتغير وسيط في تعقيد المشهد المستقبلي للخلافات بين نيودلهي وإسلام آباد، وهو بُعد قلما يطرق بابه المحللون في تناولاتهم.
وفي شرحه للتفاعلات المعقدة بين الهند وباكستان مع طالبان، شدّد باقري على هذه المسألة قائلاً: "عندما نتحدث عن كيفية تعامل الهند وباكستان مع طالبان في أفغانستان كعامل يضيف طبقةً معقدةً أخرى لعلاقاتهما المتوترة أصلاً، فإن لذلك وجهين متباينين، من ناحية، تعاملت الهند بحذر شديد وبنهج براغماتي مع الحكومة الحالية في كابول بعد انهيار الحكومة التي كانت تحظى بدعمها في أفغانستان ووصول طالبان إلى سدة الحكم.
للهند مصالح أمنية واقتصادية جمة في أفغانستان، ولا ترغب في أن يتحول الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية المناهضة لها، وتشير بعض التقارير إلى أن نيودلهي أقامت حتى قنوات اتصال غير رسمية مع طالبان، وأكدت على ضرورة الحفاظ على أصولها البنيوية في الأراضي الأفغانية.
من ناحية أخرى، تربط باكستان علاقة شديدة التعقيد بحركة طالبان، في الواقع، تُعرف باكستان، سواء أكان ذلك بحق أم بغير حق، بأنها العراب الذي صمّم وأنشأ طالبان، وكان أحد الدوافع الرئيسية وراء دعم باكستان لطالبان، هو كبح جماح النفوذ الهندي المتنامي في أفغانستان، ومع ذلك، ظلت العلاقات بين إسلام آباد وطالبان فاترةً ومشوبةً بالتوتر منذ استعادة الحركة زمام السلطة في كابول.
تتوجس باكستان خيفةً من أن تتحول الأراضي الأفغانية إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية المناوئة لها، وعلى رأسها حركة طالبان باكستان (TTP)، وتصاعدت وتيرة هجمات TTP داخل الأراضي الباكستانية، وبينما تتهم إسلام آباد طالبان أفغانستان بالتقاعس عن كبح جماح هذه الجماعة، فإنها تقر بدور جهاز المخابرات الهندي في رفد TTP بأسباب القوة والدعم.
وعليه، نشهد أن الهند وباكستان قد سلكتا دروباً متباينةً في التعامل مع طالبان أفغانستان، ما قد يذكي نار انعدام الثقة المستشرية بينهما، فإذا انخرطت الهند في تعامل أوثق مع طالبان، فقد تفسر باكستان هذه الخطوة على أنها مسعى من نيودلهي لتعزيز نفوذها في محيطها الجغرافي، ما قد يفضي إلى تأجيج أوار التوترات".
وتابع هذا المحلل والخبير بالشؤون الإقليمية حديثه عن دور حركة طالبان في إذكاء التوترات قائلاً: "تمثّل حركة طالبان باكستان (TTP) عاملاً بالغ الأهمية وشديد التعقيد في تحليل نسيج العلاقات الهندية الباكستانية.
TTP جماعة إرهابية عابرة للحدود تسعى لتحقيق مآربها داخل باكستان، لكن يُشاع أن لها ملاذات آمنة في الأراضي الأفغانية، رغم أن طالبان أفغانستان تنفي وجود عناصر TTP على أراضيها أو تقلل من شأن وجودهم. من منظور باكستان، تشكّل هجمات TTP تهديداً خطيراً يقوّض أركان أمنها القومي، وطلبت إسلام آباد مراراً وتكراراً من طالبان أفغانستان وضع حدٍّ لنشاط هذه الجماعة، لكن يبدو أن طالبان إما تفتقر إلى القدرة على ذلك، أو تنأى بنفسها عن هذا المسعى.
تم التوصل إلى اتفاق بين باكستان وطالبان لإبعاد عناصر TTP عن الشريط الحدودي الباكستاني، هذا الوضع المتشابك دفع باكستان إلى اتهام الهند بالدعم الخفي لـ TTP بغية زعزعة استقرارها، رغم أن الهند تنفي هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً.
غير أن باكستان تصر على أنه لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل الدور الهندي في تصاعد هجمات الجماعات الانفصالية البلوشية (BLA) وTTP في العامين المنصرمين، وما من شك في أن باكستان تملك من الوثائق والأدلة ما يدعم مزاعمها.
ورغم أن ما يُعرف بـ ‘مقاومة كشمير’ (TRF)، وهي فرع منبثق عن جماعة ‘لشكر طيبة’ الإرهابية، قد أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الذي استهدف السياح في منطقة ‘بهلغام’ في كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، إلا أن ثمة جماعات أخرى منتشرة في أرجاء المنطقة تستلهم أيديولوجيةً متطرفةً مماثلةً، وبوسعها شنّ هجمات إرهابية مشابهة، وفي جميع الأحوال، من شأن هذه الهجمات الإرهابية أن تعكر صفو العلاقات الهندية الباكستانية، وتزيدها توتراً واضطراباً.
وعليه، فإن TTP أو طالبان أو أي جماعة متطرفة أخرى كفاعل غير حكومي له أهدافه ومصالحه الخاصة، يمكن أن تُستغل كورقة ضغط ومتغير وسيط من قبل الهند وباكستان، تتهم الهند باكستان بدعم لشكر طيبة وأخواتها؛ وتتهم باكستان الهند بدعم TTP والانفصاليين البلوش، مع استمرار هذا النمط من العلاقات المضطربة، ستتصاعد وتيرة التوترات بين الهند وباكستان وتزداد حدةً، وفي آفاق هذه التوترات المتصاعدة، يتعين علينا أن نرصد بعين الخبير أي دور سيضطلع به اللاعبون الإقليميون والدوليون ذوو الثقل والتأثير".
آفاق الأزمة المستقبلية
وفي خاتمة حديثه، أماط باقري اللثام عن مستجدات الأزمة قائلاً: "أصدر ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، أمراً يمنح الجيش الهندي ‘حرية التصرف’ للرد على الهجوم الذي وقع الأسبوع المنصرم في كشمير.
ويعزى إصدار مودي لهذا الأمر الخطير إلى جملة من الدوافع:
أولاً، أثار الهجوم في منطقة تنعم بحماية نسبية وتستقطب السياح، والذي أسفر عن خسائر بشرية فادحة، موجةً من المخاوف المتصاعدة بشأن الوضع الأمني في المنطقة، وتدعي الهند أن باكستان ما فتئت توفر الملاذ الآمن والدعم المالي للجماعات الإرهابية الناشطة في كشمير، والمشاعر العامة في الهند تميل بقوة نحو اتخاذ إجراء صارم وحاسم ضد ما تصفه بالإرهاب.
ثانياً، يروم مودي إظهار عزيمته الراسخة هذه المرة على التعامل بصورة جذرية مع منفذي الهجمات الإرهابية ورعاتهم، لذا، فإن تفويض الجيش بـ’حرية التصرف’ يعكس الإصرار الشديد على مجابهة التهديدات، والحيلولة دون وقوع هجمات مستقبلية.
ثالثاً، وهذا هو الأمر الأكثر إثارةً للقلق والتوجس، ويتمثّل في تصميم سيناريوهات جديدة من قبل الهند وحتى الولايات المتحدة لإغراق باكستان في مزيد من العزلة، وفي هذا السياق، كثّفت الهند من تفاعلاتها وعلاقاتها مع حكومة طالبان في أفغانستان، ويزعم بعض شهود العيان أن مقاطع الفيديو المسربة من مسرح الحادث في بهلغام، لا تُظهر أي إجراءات رادعة لصدّ المهاجمين، إن تصاعد حدة التوتر وربما اندلاع نار الحرب بين الهند وباكستان، يصبّ نوعاً ما في مصلحة الولايات المتحدة ويضر بمنافسيها في شبه القارة، وستكون التداعيات السلبية لمثل هذا التطور الخطير وخيمةً أيضاً بالنسبة لإيران.
للأسف، في ظل المناخ المشحون بالتوتر الراهن والتاريخ الحافل بالصراعات، يستعصي على المرء استشراف مستقبل العلاقات بين البلدين، هناك احتمال بأن يتصاعد ضغط الحكومة الهندية على مسلمي كشمير وتوجيه سهام الاتهام إلى باكستان بدعم الإرهاب، وكما أسلفنا، فقد دفعت حوادث مماثلة في الماضي البلدين إلى حافة الهاوية وشفا الحرب، ومع ذلك يحدونا الأمل أن يتجنب الطرفان بحكمة وضبط للنفس مزيداً من التصعيد الخطير، وأن يسلكا طرق الدبلوماسية لحل خلافاتهما المستعصية، بيد أنه في ظل مصالح بعض اللاعبين الإقليميين والدوليين في استدامة حالة عدم الاستقرار، فإن الطريق أمامنا محفوف بالمخاطر وشديد الوعورة".