الوقت - أتمّ دونالد ترامب مؤخراً مئة يوم من تربعه على عرش البيت الأبيض، وعلى الرغم من وعوده المدوية إبان الحملة الانتخابية بإخماد نيران الحرب الأوكرانية في غضون يوم واحد، فإنه عجز حتى اللحظة عن تحقيق هدنة في ساحات القتال، فكيف بالتوصل إلى اتفاق يضع حداً نهائياً لهذه المعمعة الدامية.
ويبدو أن إدارة ترامب، بعد أن واجهت حقائق الحرب الماثلة في أوكرانيا، تتطلع إلى اتخاذ خطوات جادة هذا الأسبوع لإنهاء الصراع المستعر، غير أن وقف إطلاق النار الدائم في أوكرانيا، يبدو ضرباً من الخيال في ظل المعطيات الراهنة والأمد القريب.
صرح “ماركو روبيو”، وزير الخارجية الأمريكي، قبل أيام بلهجة تنمّ عن الحذر بشأن وقف إطلاق النار في أوكرانيا قائلاً: “قطعنا شوطاً نحو وقف إطلاق النار، لكننا لم نبلغ بعد الهدف المنشود”، وأردف أن إدارة ترامب على أهبة الاستعداد للانسحاب كلياً من هذا الملف إذا أخفقت مساعي الهدنة، بيد أن نبرة واشنطن ظلت مفعمةً بالتفاؤل عقب محادثة استغرقت خمس عشرة دقيقة بين ترامب وفولوديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، على هامش مراسم تشييع جثمان البابا فرنسيس.
كان هذا اللقاء الأول بينهما منذ خلافهما المرير في المكتب البيضاوي، أبدى الرئيسان ارتياحهما للقاء، واصفين إياه بـ"المثمر"، فيما أشاد زيلينسكي به بوصفه لقاءً “يکتبه التاريخ بمداد من ذهب”، وفي موقف نادر، وجّه ترامب سهام النقد إلى بوتين عقب الهجوم الروسي الأشدّ فتكاً على العاصمة الأوكرانية الأسبوع المنصرم، مدوناً على منصة “تروث سوشيال”: “فلاديمير، حسبك!”، معرباً عن “استيائه” من الهجوم، كما لوح بسيف العقوبات في وجه روسيا بعد لقائه زيلينسكي في كاتدرائية القديس بطرس.
ما الذي يضمره ترامب وبوتين في طيات اتفاق وقف إطلاق النار؟
تتناهى إلى الأسماع من أروقة الكرملين أن مطالب روسيا لإيقاف الحرب في الأراضي الأوكرانية، تشتمل على منع انضواء أوكرانيا تحت لواء حلف شمال الأطلسي، والتخلي عن رقعة واسعة من مناطق الحرب المشتعلة في الشرق الأوكراني لمصلحة روسيا، وإقرار واشنطن بضمّ شبه جزيرة القرم، ورفع الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا على موسكو.
في المقابل، يتجلى موقف أمريكا في منح أوكرانيا “درعاً أمنياً” تتعهد به الدول الأوروبية وسائر الدول المناصرة لأوكرانيا كضامن لوقف إطلاق النار، بيد أن ملامح هذا الدرع تظل ضبابيةً غامضةً، علاوةً على هذه الضمانات، يتحتم على كييف إبرام عقد تعديني مع واشنطن يمنحها نصف ثمار الموارد الطبيعية الأوكرانية، وتسليم زمام محطة زابوريجيا النووية للولايات المتحدة، على أن تغذي هذه المحطة كلاً من أوكرانيا وروسيا بالطاقة الكهربائية.
وفقاً للاتفاق المقترح من موسكو، لن تخضع روسيا لأي مساءلة عن أسباب إشعال فتيل الحرب الأوكرانية، ولن تلتزم بدفع أي غرامات محددة، ولا ريب أن هذه صفقة بالغة القسوة بالنسبة لأوكرانيا، قد تتوقف شلالات الدماء وأصداء المدافع، لكن أوكرانيا لن تخرج من أتون هذه الحرب منهكة القوى فحسب، بل ستفتقر أيضاً إلى أي ضمانات أمنية راسخة، إذ تنأى واشنطن بنفسها عن التماس الدعم الأوروبي في توفير المظلة الأمنية لأوكرانيا.
وفي حقيقة الأمر، تقف أوكرانيا وحيدةً في ساحة التنازلات بموجب هذا الاتفاق، فضلاً عن ذلك، ستكون هذه المرة الأولى في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تُرسم فيها حدود القارة العجوز بلغة السلاح، وتتبدل فيها معالم الخرائط بفعل نيران الحروب.
مغزى اتفاق السلام الدائم لأوكرانيا
مثّلت الحرب بالنسبة لأوكرانيا في العامين المنصرمين معركةً مستعصيةً على الانتصار، خاليةً من الغنائم الملموسة، ولم تتجسد وعود الغرب بمدّ يد العون لأوكرانيا على أرض الواقع، في الحقيقة، اكتفى الغرب في الأشهر الأخيرة بالدعم اللفظي والبيانات المنمقة، ولم تبذل الدول الأوروبية جهداً حقيقياً لإخماد أوار الحرب الأوكرانية.
وقد أفصح “بوريس بونداروف”، السفير الروسي السابق، قائلاً إنه لو اتخذ الغرب موقفاً صارماً تجاه روسيا في مستهل الأزمة ومدّ أوكرانيا بما يكفي من العتاد الحربي، لكان من الوارد أن تنسحب الفيالق الروسية من أوكرانيا في عام 2022، لكن الغرب آثر التقاعس، وأضاف هذا الدبلوماسي المخضرم أن وعد انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو كان ضرباً من الحماقة، إذ كان جلياً أن موسكو لن تسمح بمثل هذا التحول مهما كلف الأمر.
تكشف القراءات التحليلية أيضاً أن الغرب كان يعقد آمالاً عريضةً على العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، بيد أن هذه العقوبات لم تجثم على صدر روسيا قط، علاوةً على ذلك، كانت حرب الاستنزاف دوماً في مصلحة روسيا، ولا سيما أن حلفاء أوكرانيا الغربيين نؤوا بأنفسهم عن الانخراط المباشر في المعارك البرية والجوية.
في الوقت الراهن، وفي غياب ضمانات أمنية و"استراتيجية حاسمة" ترسم ملامح المستقبل الأمني لأوكرانيا، قد لا يكون الاتفاق الذي تنشده واشنطن قائماً على أسس متينة أو مستقرة، من المرجح أن يؤذن الاتفاق الذي تسعى إليه أمريكا بأفول نجم زيلينسكي، وسيجر أوكرانيا إلى دوامة من الاضطراب السياسي، لأن التفريط في الأراضي سيستلزم تعديل الدستور وطرح الأمر للاستفتاء الشعبي في أوكرانيا.
وفي ظل تصدع المشهد السياسي الأوكراني، ستجد روسيا فرصةً سانحةً للاستفادة من هذه الانقسامات والفوضى، وربما تعيد تشكيل المشهد السياسي الأوكراني وفق مصالحها الاستراتيجية.