الوقت - على الرغم من التصريحات التي أطلقها الكيان الصهيوني في بداية عدوانه الآثم على لبنان، والتي زعم فيها أنه سيقتصر على استهداف المواقع العسكرية دون سواها، إلا أن الحقائق على أرض الواقع تكشف الآن بما لا يدع مجالاً للشك، أن الغالبية الساحقة من الأهداف التي طالها القصف الهمجي في لبنان، ولا سيما في الأسابيع القليلة الماضية، كانت عبارةً عن منشآت مدنية وبنى تحتية حيوية ومرافق صحية تخدم المواطنين الأبرياء.
ولعل أبرز مثال صارخ على هذا النهج الإجرامي المقيت، يتجلى في الهجمات الوحشية الأخيرة التي طالت عدداً من المستشفيات اللبنانية، فالکيان الصهيوني، سائر على نهج ما اقترفه سابقاً في قطاع غزة المحاصر، يمعن الآن في استهداف قطاع الصحة الحيوي في لبنان بكل ما أوتي من قوة وبطش.
وفي هذا السياق، صرح رئيس نقابة الأطباء في لبنان بأن خمسة مستشفيات على الأقل قد توقفت عن العمل كلياً، فيما لحقت أضرار جسيمة بـ 22 مستشفى آخر جراء القصف الإسرائيلي المتعمد والممنهج.
تنفيذ نموذج غزة في لبنان
قبل ليلتين، شنت طائرات الکيان الصهيوني غارات جوية استهدفت مستشفى جامعة رفيق الحريري الواقع في جنوب بيروت، وقد أسفر هذا العدوان عن استشهاد ما لا يقل عن 18 شخصاً، من بينهم أربعة أطفال أبرياء، وقد التقطت عدسات وكالة فرانس برس المصورة عمودًا من الدخان الكثيف يتصاعد في سماء ضاحية بيروت، كما أكد مراسلوها نبأ قصف موقف السيارات التابع للمستشفى.
وكشف الدكتور غسان أبو سطح، الجراح الفلسطيني البريطاني الذي عايش بأم عينيه فظائع الهجمات العسكرية الإسرائيلية على المستشفيات والمسعفين والأطباء في قطاع غزة، أنه يشهد الآن تكرارًا لنفس المشهد في لبنان، وقد أدلى لقناة الجزيرة بشهادة صادمة، مؤكدًا وجود أوجه تشابه صارخة بين التكتيكات والاستراتيجيات الإجرامية المتبعة في الاعتداءات الآثمة على المراكز الطبية في لبنان، وتلك التي شهدها قطاع غزة من قبل.
وأضاف هذا الطبيب إن الاحتلال الصهيوني، من أجل تحقيق حلمه بالتطهير العرقي لمنطقة ما، يعمد إلى تدمير نظام الرعاية الصحية فيها بشكل ممنهج، وهو نفس النهج الإرهابي الذي انتهجته "إسرائيل" في جنوب لبنان، وفي غزة من قبل.
القصف المنهجي للمراكز الطبية
في تصعيد خطير يُنذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة، أقدمت القوات العسكرية التابعة للكيان الصهيوني، منذ بداية عملياتها العدوانية على الأراضي اللبنانية، على شنّ سلسلة غارات ممنهجة استهدفت المركبات الإسعافية والطواقم الطبية، ما أدى إلى ارتقاء ما لا يقل عن 120 من الكوادر الطبية والإغاثية إلى مرتبة الشهادة منذ الحادي والعشرين من سبتمبر حتى يومنا هذا.
وفي تصريحات رسمية مؤكدة، كشفت وزارة الصحة اللبنانية أن العدوان الإسرائيلي لم يقتصر على استهداف المنشآت الطبية التابعة لحركة أمل، الحليف الاستراتيجي لحزب الله، بل امتد ليشمل مؤسسات الصليب الأحمر اللبناني، والخدمات الطبية التابعة للدفاع المدني اللبناني المنضوية تحت مظلة وزارة الداخلية.
وفي تحقيق استقصائي، أوردت صحيفة "العربي الجديد" معلومات تؤكد وجود استراتيجية إسرائيلية متعمدة تقوم على استهداف المناطق المحيطة بالمنشآت الاستشفائية وقصف المباني المجاورة، ما يؤدي إلى تراكم الركام والأنقاض في محيط المراكز الطبية، وتتسبب التفجيرات المتتالية في إلحاق أضرار جسيمة بالنوافذ والمعدات الطبية الحيوية، ما يؤدي حتماً إلى تعطيل المنظومة الطبية بأكملها.
وخلال الأسبوعين المنصرمين فقط، طالت الاعتداءات الإسرائيلية 37 مركزاً صحياً في النطاق الجغرافي الممتد من جنوب لبنان إلى العاصمة بيروت، ويُشكل استهداف المجمعات الطبية في مرجعيون وبنت جبيل، نموذجاً صارخاً لهذه الهجمات المدروسة.
ويواجه النظام الصحي اللبناني تحديات غير مسبوقة تضعه على شفا الانهيار التام، في ظل النقص الحاد في الكوادر البشرية المؤهلة، وفي خضم تناقص المعدات الطبية الضرورية، يتصاعد عدد الإصابات والشهداء من العاملين في القطاع الصحي بشكل مقلق.
وأشار الدكتور أبو سطح، وهو طبيب لبناني، في مقابلة إلى أن لبنان يواجه نقصاً حاداً في الأطباء المتخصصين، حيث هاجر ثلث الأطباء من البلاد بسبب الأزمة الاقتصادية، وتعيش مستشفيات بيروت حالياً أزمةً شاملةً، وقد أكدت منظمة الصحة العالمية أن الهجمات الإسرائيلية جعلت من المستحيل إيصال الشحنات الكبيرة من المستلزمات الطبية إلى بيروت، فقد تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية، خلال فترة زمنية لا تتجاوز 24 ساعة، في استشهاد 28 من الكوادر الطبية، وتعطيل عمل عشرات المستشفيات والعيادات بشكل كامل.
أسباب الهجمات المنهجية على المراكز الطبية
يبدو أن الكيان الصهيوني في هجماته على المراكز الطبية في لبنان، يسعى إلى تحقيق أهداف متعددة ومعقدة:
1. الضغط لتهجير السكان: يُعتبر قصف المستشفيات والمراكز الصحية، من الأساليب غير المشروعة التي يلجأ إليها المعتدون الصهاينة لزيادة الضغط على الشعب اللبناني، وبإغلاق هذه المرافق الحيوية، يُضطر سكان المناطق المتأثرة إلى الهجرة القسرية والفرار من مناطق الأزمات، وقد سبق للصهاينة استخدام هذه الوسيلة اللاإنسانية في قصف غزة، بهدف دفع السكان إلى النزوح القسري، وقد صرح بن غفير، وزير الأمن في الكيان الصهيوني، بضرورة زيادة الضغط على سكان جنوب لبنان لإجبارهم على مغادرة المنطقة.
2. تعميق الانقسامات الداخلية في المجتمع اللبناني: من جانب آخر، فإن استهداف المراكز الطبية في جنوب لبنان، يضاعف الضغط على المرافق الصحية في المناطق الشمالية وأجزاء أخرى من البلاد، ويعتقد الصهاينة أن هذا الوضع سيؤدي إلى تصاعد التوترات بين مختلف الفئات داخل المجتمع اللبناني، وفي الواقع، فإن زيادة الضغط الإسرائيلي على جنوب لبنان، سينعكس بضغط مضاعف على سكان الشمال، ما يسهم في تعميق الانقسامات الداخلية في لبنان.