الوقت - بينما تتخذ غالبية دول العالم موقفاً متحفظاً تجاه حكومة طالبان - نظراً لانتهاكات حقوق المرأة وغياب التمثيل الشامل في الحكم - تسلك الدول المجاورة لأفغانستان نهجاً براغماتياً، منخرطةً في تعاملات دبلوماسية مع الحركة لتأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية.
وفي أعقاب مبادرات دول كإيران والصين بتسليم السفارات الأفغانية لسلطة طالبان، ها هي أوزبكستان تخطو خطوةً جريئةً بإرساء علاقات دبلوماسية رسمية مع كابول.
وفي هذا السياق الدبلوماسي، أعلنت وزارة الخارجية الأوزبكية في بيان رسمي يوم الخميس الماضي، عن استلام السيد بختيار سعيدوف، وزير الخارجية الأوزبكي أوراق اعتماد السيد عبد الغفار تراوي، ممثل حركة طالبان، ليباشر مهامه الدبلوماسية كسفير معتمد لدى جمهورية أوزبكستان.
خلال المراسم الدبلوماسية، أكد السفير تراوي على أهمية تعزيز أواصر العلاقات بين كابول وطشقند، ومن جانبه، شدّد الوزير سعيدوف على الدور المحوري للمصالح المشتركة والإرث التاريخي المشترك بين البلدين، كركيزة أساسية لتوطيد أطر التعاون الثنائي وتوسيع آفاقه.
يأتي تنصيب الممثل الدبلوماسي لطالبان في العاصمة الأوزبكية، في وقت تشير فيه التصريحات الرسمية الصادرة عن كابول إلى إدارتها لما يناهز 40 بعثة دبلوماسية في شتى أنحاء العالم، وعلى مدار السنوات الثلاث المنصرمة، منذ عودة طالبان إلى سدة الحكم، عمدت أوزبكستان إلى تكثيف علاقاتها مع كابول، مع إيلاء اهتمام خاص بتعزيز الروابط الاقتصادية كمحور أساسي في العلاقات الثنائية.
إضفاء الشرعية على طالبان
يُمثّل تسليم المقر الدبلوماسي في أوزبكستان لحكومة طالبان، إنجازاً دبلوماسياً فارقاً للحركة، فمنذ استعادتها زمام السلطة في أغسطس 2021، انخرطت قيادة طالبان في مساعٍ دؤوبة لاستمالة المجتمع الدولي نحو الاعتراف بحكومتها المؤقتة، وقد أثمرت جهودها خلال العام المنصرم، عن إرساء علاقات سياسية مع عدد من دول المنطقة.
إن توطيد أواصر العلاقات السياسية مع طالبان، يُعدّ بمثابة إضفاء للشرعية على حكومة كابول، ومع انضمام المزيد من الدول إلى هذا المسار، ستتمكن حكومة طالبان من الانخراط في المنظومة الدولية، والتحرر من قيود العزلة السياسية التي طوقتها، ومن زاوية أخرى، تنظر طالبان إلى أوزبكستان كنافذة استراتيجية لتحقيق مكاسب اقتصادية، في إطار مساعيها الحثيثة لتعزيز مواردها المالية.
في السنوات الأخيرة، سعى صناع القرار الأفغان بدأب نحو تكثيف تعاونهم الاقتصادي، طامحين إلى تنويع مساراتهم التجارية والترانزيتية، بغية ضخّ دماء جديدة في شرايين اقتصادهم المتعثر، وتقليص اعتمادهم على موارد التمويل العالمية، من خلال تطوير آفاق التجارة الدولية، وفي هذا السياق، تبرز أوزبكستان كبوابة محورية لأفغانستان نحو أسواق آسيا الوسطى وروسيا، ما قد يساهم في تخفيف وطأة المأزق الاقتصادي الذي تعاني منه.
وما يجدر ذكره أنه في السابع عشر من أغسطس، قام وفد رفيع المستوى برئاسة رئيس وزراء أوزبكستان بزيارة إلى كابول، أسفرت عن توقيع 35 اتفاقية بقيمة إجمالية بلغت 2.5 مليار دولار بين الجانبين، وشهدت هذه الزيارة إبرام خمس اتفاقيات استراتيجية مع طالبان في قطاع التعدين، بقيمة تقديرية تصل إلى 1.15 مليار دولار.
إن تزايد وتيرة العقود ذات المنفعة المتبادلة بين أوزبكستان وطالبان، يُعدّ ذا أهمية قصوى للتطور الإيجابي المنشود في العلاقات الثنائية مستقبلاً، وتمتلك أوزبكستان في جعبتها ترسانةً متنوعةً من الأدوات، للتأثير على مسار إجراءات طالبان، فعلى سبيل المثال، تمرّ عبر أراضيها نسبة كبيرة من المساعدات الإنسانية المتدفقة إلى أفغانستان، علاوةً على ذلك، تضطلع أوزبكستان بدور حيوي في تزويد كابول بالطاقة الكهربائية، ما يمنحها نفوذاً استراتيجياً للتعامل مع طالبان وفق مقتضيات المصلحة.
تشهد الساحة الدبلوماسية الإقليمية تحولًا جوهريًا، إذ بادرت العديد من الدول إلى الترحيب بتعيين ممثلين لحركة طالبان في عواصمها، في إطار إعادة نسج خيوط العلاقات الدبلوماسية مع كابول.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة لا تُعدّ، في نظر هذه الدول، اعترافًا ضمنيًا أو صريحًا، بل هي بمثابة ضرورة تقنية لإرساء أسس الإدارة المشتركة، ومن شأن هذه العلاقات أن توسّع آفاق التعاون مع أفغانستان على الصعيد العملي، ما قد يمهّد الطريق لبعض الدول مستقبلًا لكسر حاجز الإجماع الغربي، والاعتراف رسميًا بالحكومة المؤقتة.
تتصدر أوزبكستان المشهد في آسيا الوسطى كأول دولة تبادر إلى إطلاق التفاعلات السياسية مع طالبان، وما لا يرقى إليه الشك أن الجمهوريات الأخرى في المنطقة ستعيد صياغة سياساتها تجاه كابول، فقد أضحت السيطرة العسكرية لطالبان، عاملًا مقنعًا لعواصم المنطقة بأن أفغانستان المستقرة، حتى في ظل حكم نظام يصعب التنبؤ بتوجهاته، تُعدّ خيارًا أفضل من شبح العودة إلى أتون الحرب الأهلية.
استثمار المقومات الاقتصادية والجيوسياسية لأفغانستان
إن التعاون المتنامي بين دول المنطقة وحكومة طالبان، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدور والمكانة الجيوسياسية الفريدة لأفغانستان، فالقطاع الصناعي، الذي يُعدّ حجر الزاوية في بناء الاقتصاد، لا يزال في طور النمو في أفغانستان، ما يتيح لدول آسيا الوسطى فرصةً ذهبيةً للاستثمار في هذا القطاع الحيوي، ودمج أفغانستان في المنظومة الاقتصادية الإقليمية.
کما أن الاستفادة المثلى من الفرص الكامنة في أفغانستان، ستعود بالنفع على الشعب الأفغاني والدول المستثمرة على حد سواء، ومع تحقيق الاستقرار التدريجي في أفغانستان، ستجد القضايا الاجتماعية طريقها نحو الحل.
ولقد أدت عقود من الصراع في أفغانستان، إلى تهميش مشاريع توسيع الممرات التجارية التاريخية، بيد أن سيطرة طالبان، التي أرست دعائم الاستقرار والأمن النسبي في البلاد، قد فتحت الباب أمام دول المنطقة لاستكشاف آفاق تجارية جديدة، وتسعى هذه الدول حثيثًا إلى تعزيز أواصر العلاقات مع طالبان، من خلال تطوير شبكات النقل البري والسكك الحديدية.
يُعدّ إرساء دعائم شبكة سكك حديدية تربط أفغانستان بأرجاء المعمورة، إنجازًا استراتيجيًا فائق الأهمية لأوزبكستان وشقيقاتها من جمهوريات آسيا الوسطى، فموقع أفغانستان المحوري على مفترق طرق العبور بين الشرق والغرب، يمنحها قدرةً فريدةً على تقديم إسهامات جوهرية في هذا المضمار.
منذ فجر استقلالها، دأبت جمهوريات آسيا الوسطى على السعي الحثيث للوصول إلى شريان الحياة المتمثل في المياه الدولية، حيث تشكّل أفغانستان، متآزرةً مع إيران، بوابة عبور استراتيجية لهذه الجمهوريات نحو آفاق المحيط الهندي والخليج الفارسي، وبإعادة نسج خيوط العلاقات بين آسيا الوسطى وأفغانستان، ستتمكن أوزبكستان ونظيراتها في المنطقة من الاستفادة المثلى من الموقع الجيوستراتيجي الفريد لأفغانستان، للولوج إلى عالم البحار المفتوحة.
في الوقت ذاته، يتطلع قادة طالبان، المكبّلون بقيود الحصار البري، إلى تحطيم هذه الأغلال، ويمكنهم الاستناد إلى شبكات السكك الحديدية الإيرانية والصينية، كركيزة أساسية لتحقيق هذه الغاية، ونظرًا لما يزخر به ميناء تشابهار من إمكانات هائلة تؤهّله ليتبوأ مكانةً مرموقةً كمحور عبور إقليمي، فإنه يمتلك القدرة على إحداث تحولات جذرية في النسيج الاقتصادي للمنطقة، مع تركيز خاص على الاقتصاد الأفغاني.
إن الموقع الاستراتيجي لأفغانستان على امتداد طريق الحرير الصيني، ذلك الجسر الحضاري العابر للقارات بين الشرق والغرب، يؤهلها لتلعب دورًا محوريًا في هذا الممر السككي الحيوي مستقبلاً، وهذا المشروع العملاق سيعمل كبوتقة تنصهر فيها المصالح التجارية لدول المنطقة، ما يُذكي روح المنافسة بينها للظفر بدور ريادي في هذا المشروع الطموح.
وعليه، فإن تحسن العلاقات بين الدول وحكومة طالبان المؤقتة، واستتباب الأمن في ربوع أفغانستان، سيعجّل بوتيرة تطوير محور العبور الصيني، ما سيتيح لدول آسيا الوسطى تسيير دفة تجارتها بكفاءة اقتصادية عالية، وفي إطار زمني وجيز، ومع تشابك هذا الخط السككي مع شبكة خطوط العبور الأخرى، وعلى رأسها ممر الشمال-الجنوب الإيراني، سينتقل مركز ثقل التجارة العالمية إلى الفضاء الآسيوي، ما سيمكّن دول القارة من رسم ملامح جديدة للنظام العالمي، وإحداث تحولات عميقة في موازين القوى الدولية.
إن انحصار أفغانستان في اليابسة، يُعدّ من أبرز العوامل المؤججة لنيران التطرف والإرهاب في هذا البلد، وتتملك دول الجوار هواجس عميقة من تفشي عدوى عدم الاستقرار إلى أرجاء المنطقة، ولهذا، تبذل هذه الدول مساعي حثيثة للحدّ من شبح التهديدات وتقليص رقعة انعدام الأمن، وذلك عبر السعي الدؤوب لإدماج أفغانستان في شبكة الاتصالات الدولية وربطها بالمياه المفتوحة.
ويهدف هذا المسعى إلى الارتقاء بالبنية التحتية وتعزيز القدرات التصديرية الأفغانية، والإسهام في تخفيف وطأة الفقر الذي يرزح تحته هذا البلد، وعليه، فإن الخيار الأمثل لتمكين أفغانستان من ولوج آفاق اقتصادية جديدة، يتجسد في إنشاء ممرات عابرة للحدود، من شأنها أن تحرر البلاد من قيود الحصار البري.
وفي مضمار الطاقة، تتطلع جمهوريات آسيا الوسطى إلى استكشاف أسواق جديدة، معوّلةً بشكل كبير على أفغانستان لتحقيق هذه الرؤية الطموحة، فتركمانستان، التي تتربع على عرش المرتبة الرابعة عالميًا من حيث احتياطيات الغاز، تسعى منذ عام 1995 لمدّ جسور تصدير غازها إلى العالم الخارجي، وقد توّجت هذه المساعي بتوقيع اتفاقية "تابي" مع الهند وباكستان وأفغانستان، بيد أن أجواء انعدام الأمن التي خيّمت على أفغانستان طوال العقود الثلاثة المنصرمة، حالت دون إبصار هذا المشروع الحيوي النور.
وعليه، فإذا ما نجحت حركة طالبان في توفير مظلة أمنية لخط أنابيب الغاز هذا، فستجني تركمانستان ثمارًا اقتصاديةً وافرةً، في حين ستتمكن أفغانستان من سدّ احتياجاتها من الغاز، ما يجعل هذا المشروع بمثابة معادلة رابحة للطرفين، ولهذا السبب، تقف تركمانستان في صف الصداقة مع أفغانستان، طامحةً إلى تحقيق تطلعاتها الاقتصادية، والتحرر من أغلال الحصار الجغرافي.
إن ديناميكيات التفاعل بين آسيا الوسطى وحكومة طالبان، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسياسات القوى العظمى في المنطقة، فنظرًا للجهود الحثيثة التي تبذلها روسيا والصين في الآونة الأخيرة، لتوطيد نفوذهما في أفغانستان وصدّ أي محاولات غربية للتدخل مجددًا في موارد هذا البلد، فإن جمهوريات آسيا الوسطى، التي تسير على خطى موسكو وبكين، تسعى بدورها لتوثيق عُرى علاقاتها مع كابول، من زاوية أخرى، فإن إدماج أفغانستان في منظومة رابطة الدول المستقلة والمنظمات الإقليمية، ولا سيما منظمة شنغهاي للتعاون، سيكون له مردود إيجابي على استتباب الأمن في المنطقة.
ومع انحسار المدّ الغربي في أفغانستان، باتت مسؤولية تعزيز أواصر التعاون الإقليمي تقع بشكل أكبر على كاهل الدول المجاورة، والتي تنظر إلى التفاعل البناء كسبيل أمثل للتصدي للمخاوف المتعلقة باحتواء أي تداعيات أمنية قد تتسرب من أفغانستان.