الوقت - عقب الجولة الاستراتيجية التي قام بها وزير الخارجية الإيراني في بيروت ودمشق، استهل السيد عراقجي مهمةً دبلوماسيةً رفيعة المستوى في الرياض، شملت مباحثات مع عدد من الأطراف الإقليمية الفاعلة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وتأتي هذه الخطوة الدبلوماسية المدروسة لتعكس نهج الجمهورية الإسلامية في تفعيل دبلوماسيتها الديناميكية والمؤثرة، بالتوازي مع تحركاتها الميدانية، وذلك في خضم الأوضاع الإقليمية المتوترة الراهنة.
لقاء عراقجي وابن سلمان
شكّل اللقاء بين الدبلوماسي الإيراني البارز عباس عراقجي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، محور الزيارة الدبلوماسية رفيعة المستوى إلى المملكة العربية السعودية، وقد أجمعت المصادر الدبلوماسية والإعلامية على وصف أجواء اللقاء بالاستثنائية، حيث تجاوز الطرفان الخطاب التقليدي ليخوضا في عمق القضايا الاستراتيجية الثنائية والإقليمية.
عقب هذا اللقاء، صرّح عراقجي عبر منصة "إكس" بما يلي: "إن الجغرافيا تنسج نسيج جوارنا الأبدي، بينما يصهر الإيمان أواصر أخوتنا الراسخة، تمتلك إيران والمملكة العربية السعودية، متآزرتين، مفاتيح إرساء دعائم الأمن والاستقرار في المنطقة، بيد أن هذا المسعى النبيل يستدعي إرادةً سياسيةً أكثر صلابةً وعزماً، يغمرني الفخر بأننا دشنّا اليوم، مع أشقائنا السعوديين، الخطوات الأولى في مسيرة تاريخية واعدة".
وأردف عراقجي قائلاً: "تباحثت مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في قضايا محورية، تشكّل جوهر اهتماماتنا المشتركة، حيث إن الكيان الإسرائيلي يقود المنطقة برمتها نحو هاوية كارثية، وعليه، فإن المنطقة تستصرخ حكمة قادتها، وتستنهض همم شعوبها، وتستدعي تضافر الجهود في مواجهة هذا المنعطف التاريخي الحرج".
استهلّ السيد عراقجي رسالته بإشارة جلية إلى حقيقة لا تقبل الجدل: فعلى الرغم من أن ظلال المستجدات الإقليمية - ولا سيما استمرار اعتداءات الكيان الصهيوني على قطاع غزة، وتأجيج الأزمات في لبنان، وما نجم عنها من تصاعد حدة التوتر بين إيران والكيان الصهيوني - قد خيّمت على هذه الزيارة، واستحوذت على اهتمام غالبية وسائل الإعلام في تحليلاتها؛ إلا أن العلاقات الثنائية تحظى بأهمية بالغة في جدول أعمال مباحثات وزير الخارجية الإيراني في الرياض.
ويأتي هذا في ظل تولي الحكومة الجديدة زمام الأمور في إيران، وإعلان طهران استعدادها لتفعيل المبادرات التي أكّد عليها الدكتور بزشكيان لتسوية كل الخلافات مع الدول العربية المطلة على الخليج الفارسي، وذلك خلال الاجتماع الأخير لمنتدى التعاون الآسيوي في العاصمة القطرية الدوحة.
لقد شهد شهر شباط/فبراير من العام 2022 توقيع إيران والمملكة العربية السعودية، تحت رعاية الصين، اتفاقيةً تاريخيةً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، منهيةً بذلك سبع سنوات من القطيعة، بيد أنه على مدار الفترة المنصرمة، وعلى الرغم من إبداء الطرفين رغبةً صادقةً، وتأكيدهما المتكرر على ضرورة إعادة إحياء وتطوير العلاقات الاقتصادية بما يوازي مستوى العلاقات السياسية، لم يتحقق تقدم ملموس في هذا المضمار الحيوي.
وعليه، فقد تصدرت مسألة استكشاف آفاق الاستثمار والتبادل التجاري، وتذليل العقبات التي تعترض سبيل توطيد أواصر التعاون الاقتصادي، قائمة أولويات الدبلوماسية الاقتصادية لوزارة الخارجية الإيرانية.
وفي حين بلغ حجم واردات المملكة العربية السعودية من السلع والخدمات في عام 2023 ما يقارب 211 مليار دولار أمريكي، فإن تحليل البيانات الجمركية التفصيلية للعام 2023، يكشف عن حقيقة صادمة إذ لم يتجاوز إجمالي حجم التبادل التجاري بين إيران والمملكة العربية السعودية عتبة الـ 500 ألف دولار أمريكي، وهذا المؤشر يبرهن بوضوح على أنه رغم التحسن الملحوظ في العلاقات الثنائية، لا يزال الطريق شاقاً وطويلاً أمام البلدين للارتقاء بمستوى التبادل التجاري إلى ما كان عليه في السابق.
استقراء مخاطر المخطط الصهيوني للمنطقة
ما لا يرقى إليه الشك، أن الجانب الأكثر حيويةً في زيارة السيد عراقجي إلى المملكة العربية السعودية، يتمحور حول تمحيص الأوضاع الإقليمية في ضوء المستجدات المتسارعة على الساحتين اللبنانية وقطاع غزة.
إن إيران والمملكة العربية السعودية، بوصفهما قطبين محوريين في منظومة غرب آسيا والعالم الإسلامي، تمتلكان من المقومات ما يؤهلهما للعب دور فاعل في ترسيخ دعائم الاستقرار الإقليمي، وتذليل العقبات التي تعترض سبيل حل الأزمات الراهنة.
مع انقضاء عام على اندلاع الأزمة في غزة، بات جلياً أن الكيان الصهيوني يسعى حثيثاً لتوسيع رقعة الصراع لتشمل مناطق أخرى، ولا سيما لبنان، وفي ظل استمرار الدعم الغربي غير المشروط، لم يُبدِ هذا الكيان أي نية لكبح جماح آلته الحربية الفتاكة.
في غضون الأسبوع المنصرم، وبعد فترة من الصبر الاستراتيجي في مواجهة سلسلة من الأعمال الإجرامية التي اقترفها الكيان الصهيوني - والتي بلغت ذروتها باغتيال قادة المقاومة ومستشار رفيع المستوى من الحرس الثوري الإيراني على الأراضي اللبنانية - بادرت إيران إلى تنفيذ عملية "الوعد الصادق 2"، مستهدفةً بدقة متناهية المراكز العسكرية والاستراتيجية للكيان الصهيوني.
في مواجهة هذه الضربة الساحقة والهجمات المماثلة الصادرة عن محور المقاومة، يتبجح الكيان الصهيوني بوعود انتقامية جوفاء، حيث إن سجل التاريخ يشهد بأن الركيزة الاستراتيجية الأساسية للکيان، تتمثل في توظيف القوة الجوية، فإن الفجوة الجغرافية الفاصلة بين الأراضي المحتلة وحدود الجمهورية الإسلامية، تشكّل معضلةً جوهريةً أمام نشر الطائرات الحربية، إذ يتعين عليها اختراق الأجواء السيادية لعدة دول قبل العودة أدراجها.
وفي هذا المضمار، كشفت العديد من التحليلات الاستراتيجية والمصادر الإعلامية، أنه إبان زيارة عراقجي إلى الرياض، وجهت إيران تحذيرًا صارمًا لدول مجلس التعاون، مفاده بأن أي تساهل في استخدام مجالها الجوي ضد طهران، سيُعدّ خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه.
ومن منظور آخر، يتجلى بوضوح لا لبس فيه أن الكيان الصهيوني يعوّل بشكل أساسي على الدعم العسكري الأمريكي المتمركز في الدول الخليجية، لتنفيذ مخططاته الشريرة، كما أن الاحتمالات تشير بقوة إلى أن الجمهورية الإسلامية قد تبادر بشن هجمات مضادة ذات قوة ضاربة، في حال إقدام الكيان الصهيوني على أي عمل عدواني.
وفي مثل هذا السيناريو، إذا ما تورطت الولايات المتحدة في تقديم دعم عسكري للكيان الصهيوني، واستُغلت قواعدها في دول المنطقة لاستهداف المصالح الإيرانية، فإن طهران ستحمّل الدولة المضيفة لتلك القواعد المسؤولية الكاملة عن تبعات هذا العمل العدائي.
لقد أكدت إيران مرارًا وتكرارًا أنها لا تسعى إلى توسيع رقعة الصراع، معتبرةً أن الصهاينة هم المستفيد الوحيد من هذا التصعيد، وعليه، يتحتم على السعودية، بما تتمتع به من ثقل ونفوذ في العالم العربي، أن تدرك بعمق المخاطر الجسيمة التي تنطوي عليها السياسات التصعيدية للحكومة الصهيونية المتطرفة.
إن الدعم الجماهيري الكاسح الذي حظي به حزب الله في أعقاب استشهاد السيد حسن نصر الله، إلى جانب الوقفة التضامنية الراسخة من إيران وسائر أركان محور المقاومة مع لبنان، قد برهن بما لا يدع مجالًا للشك على أنه يتعين على السعوديين تجنب الوقوع في فخ الحسابات الاستراتيجية الخاطئة، فيما يتعلق بإمكانية إضعاف المقاومة في لبنان أو القضاء عليها، ذلك أن اتساع نطاق هذه الحرب، قد يعرّض المصالح الحيوية لجميع دول المنطقة لمخاطر لا تُحمد عقباها.