الوقت - اليوم، بسبب الحصار الشديد، يكاد يكون من المستحيل العثور على الغذاء في غزة، حتى عن طريق البحر وصيد الأسماك، كما تم تدمير أسس معيشة الناس اليومية، وهناك تقارير لا تصدَّق عن تحول الناس إلى تناول الأطعمة الحيوانية والأعلاف وأوراق النباتات، من أجل البقاء.
وفي ظل هذا الوضع الإنساني البائس، يتعين على سكان غزة أن يدفعوا ثمناً باهظاً حتى من أجل الحصول على الغذاء، من خلال قوافل المساعدات الأجنبية.
ولم يكتف الکيان الصهيوني، الذي قتل وأصاب أكثر من 100 ألف شخص في غزة خلال الأشهر الستة الماضية وحوَّل هذا القطاع إلى أنقاض، بهذا الكم من الجرائم، واستهدف في الأسابيع الأخيرة الفلسطينيين الذين تجمعوا في طوابير للحصول على الطحين.
وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الصحة التابعة لحركة حماس، الخميس الماضي، أن القوات الصهيونية أطلقت النار على مجموعة من الفلسطينيين في ساحة الكويت بغزة كانوا ينتظرون المساعدة، ما أدى إلى استشهاد 20 شخصاً وإصابة 115 آخرين.
وقد نفى جيش الاحتلال مرةً أخرى تورطه في هذه الجريمة، وأعلن أن الفلسطينيين أنفسهم مسؤولون عن هذا الهجوم، وهذه ليست المرة الأولى التي يرتكب فيها الصهاينة مثل هذه الجريمة، فقد ارتكبوا مثل هذا العمل غير الإنساني عدة مرات في الشهر الماضي.
وفي فبراير/شباط، قُتل 115 شخصاً وجُرح أكثر من 760 آخرين عندما فتح الجنود الإسرائيليون النار على فلسطينيين يتضورون جوعاً، أثناء تلقيهم الغذاء من قافلة مساعدات خارج مدينة غزة، وقالت وسائل إعلام رسمية في غزة، إنه بجريمة الخميس، ارتفع عدد الشهداء الذين استشهدوا أثناء انتظار المساعدات الغذائية إلى 400، كما ارتفع عدد الجرحى إلى أكثر من 1300 شخص.
منذ أشهر، ظل المجتمع الدولي يطالب الکيان الصهيوني بإنهاء الإبادة الجماعية والحصار ضد المدنيين في غزة، لكن هذا الکيان يأمل أنه من خلال فرض الألم والمعاناة على الشعب الفلسطيني، سيتمكن من التوصل إلى اتفاق أفضل مع حماس.
وفي الأسابيع الأخيرة، أعطت سلطات تل أبيب الأولوية للهجوم البري على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، ووافق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يوم الجمعة على خطة الجيش لمهاجمة هذه المنطقة، وحسب المسؤولين المتشددين في تل أبيب، فإن الأسرى الصهاينة وقوات القسام متواجدة في رفح، ويمكنهم تحرير أسراهم وتدمير حماس بهجوم بري.
ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بوضوح، على أن التجويع المتعمد للمدنيين من خلال حرمانهم من الأشياء الضرورية لبقائهم، بما في ذلك العرقلة المتعمدة لإمدادات الإغاثة، يعدّ جريمة حرب.
وفي حالة غزة، من الواضح أن جرائم الحرب تُرتكب، فمنذ اليوم الأول للحرب، في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، قال وزير الحرب الصهيوني علناً إن هذه المنطقة ستحرم تماماً من الغذاء والماء والكهرباء.
ويتم تنفيذ الهجوم على تجمع الفلسطينيين في طوابير الدقيق دون قصف، وبشكل رئيسي من خلال إطلاق نار مجهول، ويتظاهر الصهاينة بأن هذا العمل يقوم به الفلسطينيون أنفسهم، الذين يقتلون بعضهم البعض بسبب التزاحم وتلقي الخبز، ولا تتدخل الصهاينة فيه.
إن الکيان الصهيوني يقدّم معلومات كاذبة للرأي العام، ويحاول الهروب من جريمته النكراء والقتل المروع الذي خطط له عمداً، لكن الأخبار والتقارير الإعلامية وشهود العيان أثبتت أن قوات الاحتلال هي التي تستهدف المدنيين، الذين يصطفون في طوابير لتلقي المساعدات.
وبالتزامن مع الهجمات الإسرائيلية على شحنة المساعدات الإنسانية، أفادت وسائل إعلام فلسطينية، الجمعة الماضي، بأن أول سفينة تحمل 200 طن من المساعدات الغذائية من قبرص وصلت إلى شواطئ غزة، حيث غادرت سفينة المساعدات الإسبانية "أوبن آرمز" ميناء لارنكا في قبرص، متوجهةً إلى ساحل غزة يوم الثلاثاء الماضي.
من خلال إرسال سفينة تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة وإسقاط المساعدات جواً، تحاول أمريكا إظهار أنها ليست متواطئةً مع "إسرائيل" في الإبادة الجماعية لشعب غزة، لكن المنظمات الدولية تؤكد أن مثل هذه المساعدات لا تعالج مشاكل الفلسطينيين.
لأن الأولوية حالياً بالنسبة لشعب غزة هي وقف الحرب، وفتح معبر رفح لإرسال المساعدات الإنسانية، ويمكن لأمريكا أن تنهي هذه الإبادة الجماعية من خلال الضغط على حكومة نتنياهو المتطرفة، لكنها لم تفعل أي شيء في هذا الاتجاه حتى الآن، حتى أن بعض المصادر أعلنت أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لتل أبيب، لشن هجوم بري على رفح.
"حرب الدقيق" لتهجير الفلسطينيين
إن الهجوم على تجمع الفلسطينيين لتسلم المساعدات الغذائية، والذي أصبح يعرف هذه الأيام بـ"حرب الدقيق"، ليس حرباً، بل إبادة جماعية ممنهجة يتم تبريرها تحت عنوان "الدفاع عن النفس".
وأدى مقتل الفلسطينيين في طابور الحصول على الدقيق، إلى ردود أفعال المؤسسات الحقوقية، حيث ذكرت المنظمة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان أن تجويع أهل غزة وقتل الجياع ومنع دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية، وخاصةً في شمال القطاع، يظهر هدف "إسرائيل" المتمثل في تهجير الشعب الفلسطيني قسراً.
وسبق أن قالت هيومن رايتس ووتش إن على "إسرائيل"، باعتبارها القوة المحتلة في غزة، ضمان حصول المدنيين على الغذاء والمعدات الطبية، بناءً على اتفاقية جنيف الرابعة، لكن على الرغم من هذه التحذيرات، فإن الوضع يزداد سوءًا كل يوم، والناس في طوابير الدقيق ليسوا بمأمن من الغزاة.
ولم يرفض الإسرائيليون دخول المواد الغذائية وغيرها من المساعدات الإنسانية إلى الأجزاء الشمالية من غزة المتاخمة للأراضي المحتلة فحسب، بل فعلوا ذلك أيضًا عند معبر رفح على الحدود مع مصر.
ونتيجةً لذلك، فإن كل شاحنة تحمل مواد غذائية يجب عليها أولاً أن تقطع كل الطريق حتى نقطة الحدود الإسرائيلية ويتم تفتيشها هناك، وبعد هذا التفتيش الذي يستغرق وقتاً طويلاً، تدخل الشاحنات إلى غزة عبر معبر رفح برفقة قوات الاحتلال.
هذه المساعدات الهزيلة التي يتم إرسالها بفعل الضغوط الدولية، مؤلمة للفلسطينيين، وعليهم أن يدفعوا حياتهم ثمناً للحصول على هذا الغذاء، وقد أفادت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية أخرى بأن الوضع الإنساني في غزة مزرٍ، وأن هناك حاجةً ماسةً للغذاء، لكن تل أبيب لا تسمح بذلك.
لقد أوصل الکيان الصهيوني الجريمة في غزة إلى ذروتها، ويحاول قتل المزيد من الفلسطينيين من خلال مهاجمة قوافل المواد الغذائية، وتمهيد الطريق للاحتلال الكامل لهذا القطاع.
وحسب معهد الدراسات الفلسطينية، قال جان بول شانيولو، الأستاذ المتقاعد في الجامعات الفرنسية ورئيس معهد أبحاث ودراسات الشرق الأوسط، عن الهجوم على تجمع الفلسطينيين الذين يتسلمون الدقيق: "تمثل هذه المأساة لحظةً تاريخيةً مهمةً للغاية منذ الـ 7 من أكتوبر، وتذكّر المجتمع الدولي بأن الإسرائيليين لا يترددون في إطلاق النار على الفلسطينيين في أي موقف، وقد حوّلوا الأوضاع السائدة في غزة المنكوبة إلى ظروف القرون الوسطى، والتي تتناقض تماماً مع القوانين الإنسانية الدولية".
وأضاف: "إن منع السكان المدنيين من تناول الطعام، يعدّ جريمة حرب مثل إطلاق النار عليهم، لقد أوضح الإسرائيليون أن أهدافهم تتجاوز القضاء على حماس سياسياً وعسكرياً، إنهم يريدون تدمير قطاع غزة حتى يضطر الناس إلى مغادرة هذا القطاع".
منع تكرار عملية طوفان الأقصى
تشمل الاستراتيجية العسكرية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في استهداف المساعدات الإنسانية كسر الإرادة، ما يجعل الفلسطينيين يندمون على ما حدث منذ الـ 7 من أكتوبر وعدم محاولة تكراره في المستقبل.
ويعتقد کيان الاحتلال أن أي فلسطيني لا يقتل بالقصف سيواجه نقصاً في الغذاء، وإذا حاول التغلب على الجوع من خلال البحث عن الدقيق، فإنه سيقع في كمين، وبالتالي يمكن أن يوقع المزيد من الضحايا الفلسطينيين.
وحسب صحيفة العربي الجديد، "من الناحية السياسية، يريد الکيان الصهيوني تمزيق جسد فلسطين، وتوسيع نطاق الانقسامات السياسية والاجتماعية، بحيث يبتعد الفلسطينيون عن أي عمل جماعي ضد الصهاينة، لأنه بهذه التصرفات تنهار القدرة على تنظيم وإدارة المجتمع وتنتشر الفوضى، وهو ما يمكن استخدامه لتشديد السيطرة على المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى الانهيار الكامل للمجتمع الفلسطيني، وهذه السياسة تتجاوز القضاء علی حماس في غزة".
يشن الکيان الإسرائيلي منذ الـ 7 من أكتوبر 2023 حرباً مدمرةً على غزة، خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة ودمار واسع النطاق للبنية التحتية.
وبدلاً من السماح بدخول ما يكفي من الغذاء إلى غزة بشكل طبيعي، أدت محاولة الکيان الإسرائيلي لاستخدام الجوع كسلاح، إلى تحويل الفلسطينيين الذين يتضورون جوعاً إلى أموات.
وتطلب محكمة لاهاي والمجتمع الدولي من الکيان الصهيوني عدم استخدام المجاعة كسلاح حرب، لكن هذا الکيان أثبت في الأشهر الأخيرة أنه لا يلتزم بأي قوانين محظورة.
ولذلك، فقد حان الوقت ليبدأ العالم، وخاصةً الدول العربية، بفرض عقوبات على هذا الکيان المتمرد، وكل دولة تقدم السلاح للکيان الإسرائيلي فهي شريكة في جرائم الحرب والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وسيبقى هذا العار على جباه الصهاينة وحلفائهم إلى الأبد.