الوقت - تزامناً مع الاضطرابات التي تسود العلاقات بين فرنسا ودول أفريقية فرنكوفونية وعلى الأخص في منطقة دول الساحل مثل بوركينا فاسو ومالي وأخيرا النيجر التي قررت طرد السفير الفرنسي الأحد وقابله تعنت من طرف باريس برفض القرار.
نشر الوكيل السابق لمديرية الأمن العام في فرنسا DGSE مذكرات وثقت مهامه في إفريقيا، وسلّطت الضوء على العلاقات المضطربة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة.
وباسمه المستعار " ريتشارد فولانج" سرد العميل السابق من خلال كتابه "44 سنة في المخابرات الخارجية الفرنسية" كيف كان استقلال الدول الإفريقية عن فرنسا شكليا، فقد تحكمت فرنسا في المنطقة عبر سياسات مختلفة لم تصب نهائيا في خدمة الشعوب، فقد اعتمدت على رؤساء دول لكي تستمر في خدمة مصالحها مقابل الصمت على فساد الرؤساء برفض القرار مقدما أمثلة منها تهريب الأموال لفرنسا وكيف عمدت الى الضغط على رؤساء آخرين لم يستجيبوا لها.
وضمن أنشطته السرية، احتفظ فولانج بعشرات الصور التي ضمنها في كتابه، كاشفا بذلك الوجه الخفي والعلاقات المضطربة لفرنسا مع مستعمراتها السابقة، من خلال مجموعة من الأحداث التي كان شاهدا عليها أو مشاركا وفاعلا فيها.
وفي حوار أجرته معه صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية، أكد العميل الفرنسي السابق أنه كان شاهدا على سقوط حكم موبوتو سي سيسوكو في الكونغو عام 1997، وعلى الإبادة الجماعية في رواندا، وتفاصيل اعتقال الجهادي بيتر شيريف المسؤول عن هجمات شارلي إيبدو، في جيبوتي، إضافة إلى أنه عمل مستشارا للرئيس السابق لجمهورية إفريقيا الوسطى فرونسوا بوزيزيه.
ومن بين هذه الأنشطة السرية، احتفظ بالعشرات من الصور على هاتفه الذكي من قرية في شمال بنين، وفي سيارة رباعية الدفع على الحدود الإريترية وفي مدخل صالة وكالة المخابرات المركزية - وذكريات غالبا لا تصدق.
وأكد العميل أن فرنسا في أوائل التسعينيات كانت تسيطر على كل شيء عبر مخابراتها، غير أن أفعالها لم ترق الجيل الجديد من الأفارقة، وتضررت معها صورة باريس التي ألقت عليها الأجيال الشابة اللوم في كل ما لحق بها، وتوجهت نحو دول أخرى كالصين، مردفا: "هكذا كنت شاهدا على نهاية الحقبة الفرانكو - إفريقية".
وعن سؤال حول تجنيد المصادر التي تمد المخابرات بالمعلومات، قال فولانج: "إذا كنت تريد معلومات عن الوضع السياسي والأمني لبلد ما فلتتوجه إلى ضباط الشرطة، اعرف عائلاتهم وأصدقائهم، ثم حدد هل يحتاجون إلى نقود أو تأشيرة أو رعاية طبية لأحد أفراد أسرتهم، ودعهم يحصلون على ذلك لتحصل منهم تدريجيا على كل المعلومات التي تحتاجها".
وأضاف "في ذلك الوقت عندما كنت في الثلاثينيات من عمري، لم أطرح على نفسي أي أسئلة كنت أجند المصادر وأجمع المعلومات الاستخبارية، من الواضح أننا سيطرنا على كل شيء، وكان لدينا مراكز استماع في البلدان، بعد ذلك بوقت طويل أدركت أن ذلك كان مقرفا.. لقد أضر هذا بصورتنا وساهم في رفض الجيل الإفريقي الجديد لفرنسا اليوم".
وتابع قائلا: "لقد استمر هذا لفترة طويلة بما فيه الكفاية.. نحن نعلم أن فرنسا لا تدفع ثمن سيارات الدفع الرباعي الخاصة بها، لكنها تدعم القادة الاستبداديين والفاسدين للدفاع عن مصالحك.. في وقت إنهاء الاستعمار في 1950-1960، قلنا بشكل أساسي: حسنا، ستصبحون سياديين، لكنكم مواد استراتيجية سنستمر في استغلالها".
وأردف قائلا: "معظم القادة الأفارقة وافقوا ولم تكن فرنسا تعرف كيف تدير عملية إنهاء الاستعمار هذه فقط السياسة العسكرية هي التي تهم"، مشيرا إلى أن مساعدات التنمية كانت كاريكاتورية.
ريتشارد فولانج يؤكد أنه عاش نهاية “إفريقيا الفرنسية” خلال العقدين الأخيرين بحكم عمله في عدد من الدول الإفريقية كعميل تابع لقسم “N ” وسط الاستخبارات الخارجية الفرنسية بسبب سوء عمل رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية ونماذج التسيير والتعاون مع هذه الدول مضيفا إن الحكومة الفرنسية تمارس البروباغاندا حول برامج التعاون بين فرنسا والدول الإفريقية، وتكون برامج دون نتائج لاحقا، وينتقد الحكومات الفرنسية التي لم تعد ترسل أطباء وأساتذة وخبراء الى إفريقيا للمساهمة في تنميتها.
وفي المقابل، يقول إن الأفارقة لا يجمعهم الكثير بالصينيين من قبل، ولكن الصينيين أذكياء يعملون في صمت، ويدشنون طرقاً ويبنون مدارس ومستشفيات، ويلمس الأفارقة هذه الأشياء في حياتهم اليومية، ما يجعلهم يثقون في التعاون الصيني وليس الفرنسي، ويحكي عن ميل الحكام الأفارقة الجدد الى التعاون الأمني والعسكري مع روسيا بدل فرنسا.
ما أراد ريتشارد فولانج إيصاله وتوضيحه أن فرنسا لم تكن تساعد الدول الإفريقية بل عملت على تعزيز مصالحها ومصالح الرؤساء الفاسدين الذين كانوا عملاء لها، وهو ما سمح بانفتاح الأفارقة الجدد على الصين وروسيا.
وتشهد فرنسا اليوم صدمة من انهيار نفوذها في منطقة الساحل ومجموع إفريقيا الفرنكفونية، ويحدث تبادل للاتهامات بشكل غير مباشر بين رئاسة البلاد التي ترى تقصيرا من طرف الاستخبارات الخارجية، وبدأت أصوات من داخل هذا الجهاز وعملاء متقاعدين ينتقدون سوء تسيير السياسيين للعلاقات مع إفريقيا بسبب قلة خبرتهم وضعف رؤيتهم الاستراتيجية في وقت انتهجت الصين وروسيا سياسة ذكية للحلول محل فرنسا في القارة.
يمكن القول إن إفريقيا ذهبت بعيداً عن فرنسا إلى غير رجعة واتجهت شرقاً، ولا يختلف عاقلان أن أفريقيا اليوم أمام صحوة تاريخية وفرصة لن تتكرر إذا سارت الأمور في مسارها الراهن، كما لا يختلف عاقلان أن التوجه الأفريقي صوب موسكو وبكين مرده إلى أنهما لا ترتبطان بماض استعماري ولا تقوم على نهب الثروات، بل تنتهج في علاقاتهما مع الآخرين سياسة التعاون البناء والتنمية المشتركة على قاعدة الفائدة والإفادة، ومن البديهي أن دولاً كأفريقيا عانت ما عانته من الاستعمار أن تبحث عن شراكات أكثر ثقة وأمناً واستقراراً وهذا يتحقق مع روسيا والصين.