الوقت- بعد سنوات من ظهور مجموعة "فاغنر" في الدونباس وتقويتها على الأرض السورية ومؤخراً الأوكرانية، لا يزال تعريف هذا الكيان محل إشكال، واعتبار المجموعة مجرد شركة عسكرية خاصة يعد اختزالا ولكن في المقابل تصنيفها كأداة جديدة بين يد الكرملين مضلل أيضًا، لأن ذلك يوحي بأن "فاغنر" هيكل منظم ومستديم تكون للسلطة التنفيذية اليد الكاملة عليه، وذلك ليس صحيحاً. تتميز "فاغنر" بتشابك المصالح الخاصة لبريغوجين، وأحيانًا وليس دائمًا مع الأهداف العملياتية أو الدبلوماسية لموسكو، ولكن يجب اعتبارها وسيلة تسهل بعض الفرص في ميدان ما وليست أداة جديدة لاستراتيجية كبيرة.
إضافة للجيش الروسي، يمتلك بوتين ترسانة عسكرية تضم عدة قوات شبه عسكرية، ما يمكّنه من استخدامها دون تكبد تكاليف كبيرة ومحاولة التهرب قانونيًا من أي مسؤولية عن ممارساتهم. إن فاغنر واحدة من بين عدة ميليشيات شبه عسكرية روسية أو شركات خاصة تمتلك قوات خاصة، وتعدّ "أداة مفيدة ومهمة" ولكنها قابلة للاستبدال بقوات شبيهة بها، ولكنها لن تشكل بديلًا عن الجيش الروسي. إن "فاغنر" ليست بديلًا للجيش الروسي لبوتين، إذ إن القوات الروسية مؤسسة عسكرية سيادية دستورية، ولكن سيبقى هناك دور مهم"لفاغنر" في المعارك والعمليات الحربية، وخاصة تلك التي تريد موسكو فيها التحايل على القانون الدولي حتى لا تتم محاسبتهم عليها.
تمرد فاغنر
بينما كان مقاتلو فاغنر يتقدمون باتجاه موسكو في محاولة تمرد أواخر حزيران، اتخذت السلطات في سوريا والقادة العسكريون الروس المتمركزون هناك مجموعة من التدابير والإجراءات السريعة ضد أفراد المجموعة العسكرية الخاصة المنتشرين في سوريا؛ لمنع اتساع نطاق التمرد، وذلك وفقا لستة مصادر مطلعة على الأمر. وذكرت المصادر أن الحملة التي لم ترد عنها أي تقارير من قبل، شملت قطع خطوط الاتصال الهاتفي، واستدعاء نحو عشرة من قادة فاغنر إلى قاعدة عسكرية روسية، وإصدار أوامر لمقاتلي المجموعة بتوقيع عقود جديدة مع وزارة الدفاع الروسية، أو مغادرة سوريا على الفور.
ومن بين المصادر التي كشفت النقاب عن هذه الأحداث مسؤولون أمنيون سوريون ومصادر متمركزة بالقرب من القوات الروسية المنتشرة في سوريا ومسؤولون إقليميون. وطلبت المصادر عدم نشر أسمائها؛ نظرا لحساسية المعلومات العسكرية. ولم ترد الحكومة السورية أو وزارة الدفاع الروسية أو فاغنر في روسيا على طلبات للتعليق. وتكشف هذه الإجراءات كيف تحركت السلطات السورية بسرعة للسيطرة على المقاتلين بدافع من الخوف من أن يتشتت تركيز موسكو، شريكة دمشق العسكرية الرئيسية، وسط الأحداث التي كانت تجري في الداخل الروسي، حسب مصدرين سوريين مطلعين على العمليات.
وقال نوار شعبان الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وهي مؤسسة بحثية مستقلة مقرها إسطنبول وتركز على الشأن السوري “دور فاغنر في سوريا، الذي كانت تلعبه سابقا، انتهى. بعد تلك الأحداث، انتهت علاقتهم بوزارة الدفاع السورية”. ولم تعلق دمشق علنا على تمرد فاغنر يومي 23 و24 حزيران؛ حين أمر رئيس المجموعة يفغيني بريغوجين رجاله الذين يقاتلون لصالح روسيا في أوكرانيا بالزحف نحو موسكو قبل أن تتوسط بيلاروس في اتفاق أدى إلى تراجعهم ونفي الكثير منهم. ومع هذا، عبر مسؤولون كبار في المخابرات والجيش السوريين عن قلقهم وهم يراقبون الأحداث من أن يؤثر التمرد على الوجود العسكري الروسي الذي اعتمدوا عليه لفترة طويلة، وفقا لضابط كبير في الحرس الجمهوري السوري ومصدر سوري مطلع على التطورات.
وأوضح المصدران السوريان أن عدد مقاتلي فاغنر في سوريا صغير نسبيا؛ إذ يتراوح بين 250 و450 فردا، أو ما يقرب من عُشر القوة العسكرية الروسية التي يعتقد أنها موجودة في سوريا. ولا توجد أرقام رسمية لتلك القوات، وتختلف الأعداد بمرور الوقت. ونشرت روسيا قواتها وخاصة قواتها الجوية الحاسمة في سوريا عام 2015، وساعدت الرئيس بشار الأسد على هزيمة المعارضة التي كانت تسعى للإطاحة به. ومنذ ذلك الحين، تشارك فاغنر في مهام قتالية وتأمين المنشآت النفطية في سوريا، ووردت تقارير عن أول وفيات مشتبه بها بين صفوف فاغنر هناك عام 2015.
ونفت موسكو على مدى سنوات أي صلة لها بفاغنر، لكن المجموعة العسكرية لعبت دورا في العلن في حرب روسيا في أوكرانيا. وقال الرئيس فلاديمير بوتين بعد التمرد، إن حكومته تمول المجموعة. وعقب إعلان بريغوجين عن تحركه، أُرسلت مجموعة من الضباط العسكريين الروس على وجه السرعة إلى سوريا للمساعدة في السيطرة على قوات فاغنر هناك، وفقا لمصدر عسكري إقليمي مقرب من دمشق ومصدرين سوريين مطلعين على الأحداث، دون تقديم المزيد من التفاصيل.
ما هو مصير مجموعة فاغنر؟
تنتشر مجموعات فاغنر في سوريا منذ 2015، ويتمركز وجودها حول حقول النفط في دير الزور. وكان أول ظهور قوي لوجودها هناك حين ساندت الجيش السوري في معركة مدينة تدمر ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" في 2016. دور المجموعة لم ينته هنا، بل عادت وشاركت مع قوات النظام في معارك عدة، منها معركة تدمر عام 2017.
يذكر أن فاغنر تعرضت لخسائر بشرية ثقيلة خلال المعارك في سوريا، أهمها عام 2018، مع تعرض أفرادها للقصف من قبل القوات الأمريكية في دير الزور. إذ نفذت فاغنر (مجموعة من نحو 600 مقاتل) هجوما ضد قوات كردية مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في دير الزور، للاستيلاء على مصفاة نفطية. تواصلت القوات الأمريكية مع نظيرتها الروسية في حينه للطلب منها سحب قواتها، إلا أن الأخيرة أنكرت معرفتها بالهجوم.
على الإثر، قامت القوات الأمريكية بهجوم جوي على قوات فاغنر، أدى إلى مقتل ما يقارب 200 عنصر. ونفت القيادة الروسية في حينها علاقتها بهذه المجموعة أو معرفتها بمخططاتها، ليتبين لاحقا أن الهجوم كان بدعم من بريغوجين الذي كان يطمح للسيطرة على مصفاة النفط لهدف تجاري، وكاد أن يتسبب بأزمة روسية - أمريكية. خسائر فاغنر في ذلك الهجوم كانت بداية الخلافات المعلنة بين بريغوجين ووزارة الدفاع الروسية، إذ اتهم زعيم المجموعة المسلحة الوزارة برفض مساعدة مقاتليه.
موسكو تستعيد السيطرة على فاغنر!
وفقا لتييري فيركولون "فاغنر صنيعة جهاز المخابرات العسكرية الروسية (GRU) والكرملين، واستفادت من الدعم اللوجستي والسياسي والمالي للدولة الروسية". ويتابع "طرد فاغنر لا يبدو خيارا اليوم، لكن إعادة تقويم أنشطتها تبدو حتمية. يمكن تصور عدة سيناريوهات خاصة بتقسيم عمل المجموعة في الداخل والخارج. إذا بقي بريغوجين ضمن المشهد السياسي العام، يمكن للمرء أن يتخيل أنه سيكون مسؤولا فقط عن العمليات الخارجية وتم إبعاده عن مسرح العمليات في الجبهة الداخلية، أي في أوكرانيا" ويستطرد فيركولون "احتمال آخر: استيعاب وزارة الدفاع الروسية لفاغنر، بعد أن أعلنت مؤخرا رغبتها في توقيع عقود مع جميع الميليشيات الخاصة، طريقة لاستعادة السيطرة على أنشطة الميليشيا في أفريقيا".
الأحداث الروسية استحوذت على اهتمام الحكومات الغربية المطلق، والتي راقبت مجريات الأمور ميدانيا وانعكاساتها الجيوسياسية بحذر. فوزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا كانت قد صرحت بأن "هذه الأحداث تثير العديد من التساؤلات ويجب أن نتوخى الحذر. هناك العديد من المناطق الرمادية. لكنها تظهر تصدعات وشقوق وعيوب داخل النظام الروسي". وفي آخر رسالة له، خرج يفغيني بريغوجين عن صمته الاثنين في رسالة صوتية، قائلا إنه لم يقصد أبدا الإطاحة بالسلطة، دون أن يكشف عن مكان تواجده.