الوقت - ضاقت سبل العيش بالكثير من البشر، ولا سيما من يعيش منهم في مناطق النزاعات، والجفاف، أو في البلدان الفقيرة، أو لغير ذلك من الأسباب، ونتيجةً لذاك الضيق لم يعد يجد المواطنون في بلدانهم ملاذاً آمناً للعيش، الأمر الذي يدفعهم للبحث عن حلول لعلّ أنجعها الهجرة إلى حياة جديدة في بلدان أخرى توفر لهم العيش الكريم، وتمنحهم الفرصة لأن يكونوا على قيد الحياة.
ولعل أكثر البلدان التي سجلت هجرة لأبنائها هي البلدان التي اندلعت فيها حروب، ابتداء بالغرب الآسيوي، مروراً ببلدان القارة الإفريقية، وصولاً إلى الشرق الأوروبي.
ومن القارة الإفريقية حدثت أزمة هجرة غير مسبوقة للدولة الواقعة في شمال هذه القارة ولا سيما تونس التي أصبحت نقطة الانطلاق الرئيسة للمهاجرين الفارين من الصراع والفقر في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوروبا بعد أن كانت ليبيا تحتل المركز الأول، إذ تبعد أجزاء من الساحل التونسي حوالي 150 كيلومتراً فقط عن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية والتي تستخدم كثيراً كنقطة عبور إلى البر الرئيسي لأوروبا.
الإحصاءات الكارثية
كانت مشكلة المهاجرين إلى بلدان شمال إفريقيا أملا في عبور البحر المتوسط إلى أوروبا نقطة خلاف بين شمال إفريقيا وأوروبا.
وقد قدر عدد المهاجرين من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الذين يعيشون في تونس بنحو 20 ألف مهاجر، لكن حالات الهجرة بالطرق غير الشرعية تركت تبعات ثقيلة على الحكومة والمجتمع التونسيين، إذ غرق في نيسان الماضي أكثر من 200 شخص قبالة السواحل التونسية خلال عشرة أيام خلال محاولتهم الوصول إلى أوروبا وفق ما أعلن فوزي المصمودي، المسؤول القضائي في مدينة صفاقس الساحلية.
وأضاف المصمودي إن خفر السواحل انتشل جثث 41 مهاجرا قبالة السواحل التونسية، وإن مشارح الموتى اكتظت بجثثهم وإن السلطات تكافح لاحتواء الزيادة في محاولات العبور.
وقالت وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة إنه عند ضم المغادرين من الساحل الليبي، وصل عدد من توفوا إلى ما يقرب من 300 شخص خلال العشرة أيام في شهر نيسان الماضي، وتوفي 824 شخصاً حتى الآن.
صفاقس.. الطعنة المنتظرة
يتدفق الآلاف من المهاجرين الأفارقة إلى صفاقس نقطة العبور الرئيسة للمهاجرين إلى الضفة الشمالية للمتوسط، وتشهد سواحلها رحلات كثيفة للهجرة السرّية، كما تنشط في موانئها تجارة قوارب الهجرة المتهالكة التي تتسبب في غرق المهاجرين.
هذه الأسباب جعلت صفاقس تعاني من تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا، الأمر الذي مهد لنشوء حالة من عدم التجانس بين أصحاب الأرض والمكون الوافد، وهذا ما حصل بالفعل فقد قُتل مواطن تونسي، خلال مواجهات مع مهاجرين أفارقة.
وقال فوزي المصمودي، الناطق باسم محكمة صفاقس: الضحية تعرض إلى إصابة خطيرة باستعمال آلة حادة على إثر مناوشة مع مجموعة من المهاجرين الأفارقة، ما تسبب في وفاته، مشيراً إلى وجود توتر وقلق لدى سكان المنطقة.
لقد كانت حادثة الطعن نقطة تحوّل في علاقة المدينة بالمهاجرين الذين دأبت على استقبالهم، إذ قام محتجون غاضبون من أهالي المدينة بملاحقة مهاجرين غير شرعيين، كما قطع آخرون الطريق الرابط بين محافظتي صفاقس والمهدية، كما أطلقت دعوات لترحيلهم، وتهجيرهم من المساكن التي يستأجرونها، فيما نقلت السلطات بعضهم إلى أماكن أخرى. واختار بعض المهاجرين الرحيل بمحض إرادتهم بعدما تعرضوا لمضايقات من الأهالي بلغت حدّ التعنيف والاحتجاز.
فقد تحوّلت صفاقس كما يرى عضو رابطة حقوق الإنسان في صفاقس، حمّة حمادي، إلى مدينة عنصرية بعد حملات التجييش ضد مهاجري دول إفريقيا جنوب الصحراء، وما يحصل هو نتاج مشاكل متراكمة لم تحلها السلطات، ما فجّر الوضع. المهاجرون فئة هشة تدفع ثمناً باهظاً لسياسات عقيمة في معالجة الهجرة بمنطقة البحر المتوسط عموماً، وقد بذلت السلطات الأمنية في تونس جهداً كبيراً للسيطرة على الأوضاع المحتقنة، لكن منسوب العنف كان أكبر.
وأضاف حمادي: بات خطاب الكراهية ضد المهاجرين متجذراً في العمق الشعبي في المدينة التي احتضنت أكثر من 40 ألف مهاجر طوال سنوات، وقد يتواصل الاحتقان في غياب حلول جذرية لملف الهجرة.
كما أعادت حادثة قتل الرجل التونسي الجدل حول وجود المهاجرين الأجانب في البلاد، فيما حذر سياسيون من وجود “عناصر مندسة” من جماعة بوكو حرام المتطرفة في صفوف المهاجرين.
وحصل توتر في صفاقس على خلفية مواجهات بين مهاجرين وسكان بالمدينة، إذ تظاهر مئات السكان، وأغلقوا بعض الشوارع وأضرموا النيران في إطارات السيارات، مطالبين بإخلاء المدينة من جميع المهاجرين غير الشرعيين.
وشهدت تونس مؤخرا، ارتفاعا في الهجمات ذات الدوافع العنصرية بعد تصريحات الرئيس قيس سعيد في فبراير/ شباط من العام الجاري التي اتهم فيها "جحافل" المهاجرين غير الشرعيين بارتكاب أعمال عنف وادعاء "مؤامرة إجرامية" لتغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد.
ومع تأزم أوضاع المهاجرين في تونس صدرت في فبراير/شباط الماضي عن الرئيس التونسي قيس سعيّد تصريحات ضد المهاجرين القادمين من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، إذ قال: إن هؤلاء المهاجرين جزء من مؤامرة تستهدف تغيير التركيبة الديموغرافية لبلاده الواقعة في شمال إفريقيا والتي تهيمن عليها بالأساس ثقافة عربية-إسلامية.
وفي الوقت الذي يتصاعد فيه خطاب الكراهية بين الطرفين، تتواصل نداءات الاستغاثة لإنقاذ المدينة، وفي المقابل، تعالت الأصوات المحذّرة من انتهاك حقوق المهاجرين الفارّين من بلدانهم.
وفي رده على هذه التطورات، اتهم الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال لقاء عقده سعيد مع عدد من القيادات الأمنية ما سماه شبكات إجرامية بالمسؤولية عن عمليات الهجرة غير النظامية إلى مدينة صفاقس.
وتطرق سعيد في لقاء جمعه برئيسة حكومته نجلاء بودن إلى موضوع الهجرة غير النظامية وما يلقاه المهاجرون من معاملة إنسانية نابعة من قيمنا ومن شيمنا عكس ما تروج له الدوائر الاستعمارية وعملائها، من الذين لا همّ لهم سوى خدمة هذه الدوائر، ومواقف هذه الدوائر هي نفس مواقف الأبواق المسعورة في الخارج التي تمهّد إلى استيطان من صنف جديد وتزيف الحقائق وتنشر الأكاذيب.
وشدد سعيد على أن قوات الأمن التونسية قامت بحماية هؤلاء الذين جاؤوا إلى تونس ويريدون الاستقرار بها عكس ما يشاع.. هذه المخططات مفضوحة ومعلومة منذ وقت غير بعيد.
وأكد سعيد أن “تونس ليست شقة مفروشة للبيع أو للإيجار وهؤلاء المهاجرون، الذين هم في الواقع مهجّرون، لم يتخذوا من تونس مقصدا لهم إلا لأنه تم تعبيد الطريق أمامهم من قبل الشبكات الإجرامية التي تستهدف الدول والبشر”.
وقد أعلن الحرس البحري في تونس، مداهمة ورشة مخصصة لصناعة قوارب حديدية في مدينة صفاقس يجري استخدامها في محاولات الهجرة غير الشرعية المكثفة انطلاقا من سواحل المدينة، وتمت مصادرة قوارب حديدية ومحرك بحري ومواد تستخدم في تصنيع هذه القوارب التي تستخدم على نطاق واسع في تهريب البشر، داخل ورشة.
ويعترض الحرس البحري بشكل يومي قوارب حديدية متهالكة وتقليدية الصنع مكتظة بالمهاجرين في عرض البحر.
كما تم ضبط 15 مهاجرا من دول إفريقيا جنوب الصحراء بصدد التحضير لرحلة عبر البحر، إلى السواحل الإيطالية، وإيقاف اثنين من مهربي البشر.
وأفادت الإدارة العامة للحرس الوطني في بيان، بأنّ "وحدات إقليم الحرس البحري في الوسط أحبطت 47 عملية لاجتياز الحدود البحرية خلسة، وأنقذت 1879 مهاجراً.
وكذلك أحبطت السلطات التونسية 65 عملية هجرة سرّية، وضبطت 2068 شخصاً حاولوا الإبحار إلى أوروبا خلال عطلة عيد الأضحى.
ويجري انتشال جثث بشكل متواتر بسبب حوادث الغرق، اذ تتسرب في الغالب المياه إلى القوارب ما يتسبب في غرقها.
الموقف من الهجرة وحقوق الإنسان
اعتبر تونسيون أن ما يحدث لأفارقة جنوب الصحراء في صفاقس جريمة ضد الإنسانية.
وأدانت منظمات محلية في بيان مشترك "انتهاك سلطات تونس أحكام الاتفاق الدولي رقم 1951 الخاص بوضع اللاجئين، والذي صادقت عليه تونس عام 1957، كما أوضحت أن الاتفاق المبرم في منظمة الوحدة الأفريقية عام 1969 للتعامل مع مشاكل اللاجئين في أفريقيا يمنع أن يواجه أي شخص رفض دخول على حدود أي دولة عضو، أو إعادة قسرية أو الطرد إلى وجهة تهدد حياته أو سلامته الجسدية أو حريته، واعتبرت أن "عمليات الطرد التعسفي غير القانونية التي تنفذها الدولة التونسية أصبحت ممارسات شائعة".
وقال المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، إنّ السلطات رحّلت مئات من المهاجرين، بينهم نساء وأطفال، إلى الحدود الليبية، مشيراً إلى أن مجموعات متفلتة تفرض سطوتها على مدينة صفاقس، وتطبق سياسات التطهير والعقاب الجماعي عبر طرد المهاجرين بالقوة، وبينهم نساء ورضع وحوامل وأطفال قصّر، ومعتبراَ أن السلطات تضفي شرعية على عمليات الطرد عبر نقل المهاجرين إلى الحدود الليبية في ظل ظروف قاسية، كما تعرقل وصول المنظمات إليهم من أجل منحهم مساعدات إنسانية.
وينتقد بن عمر خلق بيئة طاردة للمهاجرين في نقاط ساخنة عبر تأجيج الممارسات والعنصرية وخطاب الكراهية ضدهم، باعتباره جزءاً من استراتيجيات ضبط التدفقات التي تعتمدها أوروبا، ولا تنحصر في عسكرة السواحل والمعدات، بل تشمل أيضاً تسليح بيئة الانطلاق بخطاب الكراهية وجعله في خدمة أجنداتها.
وتتعرض تونس لضغوط أوروبية متصاعدة لتعزيز مراقبة شواطئها ومنع قوارب الهجرة من المغادرة. وتعهدت دول أوروبية بتقديم دعم مالي لها لأجل ذلك، لكن الرئيس التونسي قيس سعيّد أكد خلال لقائه وزير الداخلية كمال الفقي وقيادات أمنية أنّ "تونس دولة لا تقبل أن تكون منطقة عبور أو مكاناً لتوطين وافدين إليها من عدد من الدول الإفريقية، كما ترفض أن تحرس غير حدودها".
ويعتزم الاتحاد الأوروبي منح تونس قوارب ورادارات نقّالة وكاميرات وعربات لمساعدتها في تعزيز ضبط حدودها البرية والبحرية بحلول نهاية الصيف الحالي، وكذلك تعزيز التعاون الأمني والقضائي معها من أجل مكافحة شبكات المهرّبين، مع اقتراح تسهيل إعادة التونسيين الذين يقيمون بشكل غير قانوني في أوروبا الى بلدهم.
ويتولى الاتحاد الأوروبي تمويل العودة "الطوعية" للمهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء عبر تونس إلى بلادهم، وقد موّل 407 عمليات لهذه العودة هذا العام.