الوقت- تحولت موريتانيا إلى نقطة استقطاب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي “ناتو”، بعد تصدع مجموعة دول الساحل الخمس، وتثبيت موسكو أرجلها في مالي، وتحركها نحو بوركينا فاسو، وسعيها للتموقع على الساحل الأطلسي على الجناح الجنوبي للحلف. إنها أشبه بـ”كش ملك” في لعبة الشطرنج، تحاول من خلاله روسيا الرد على محاولة الناتو تطويقها من الغرب والشرق، عبر البحث عن فضاءات حيوية في شمال إفريقيا لتهديد جناحه الجنوبي سواء من ليبيا أو من موريتانيا. وهذا ما يفسر الزيارة النادرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى موريتانيا،حيث وصل وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، اليوم الثلاثاء، إلى نواكشوط في محطة من محطات جولته الإفريقية الحالية الهادفة إلى توطيد وتوسيع شراكة مع روسيا بديلة عن الشراكة مع فرنسا التي يمر وجودها بمرحلة انكماش كبير على مستوى منطقة الساحل أهم مناطق هذه الشراكة.
ويلتقي الوزير لافروف الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني ووزير خارجية موريتانيا محمد سالم مرزوق، حيث سيجري، وفقاً لمصادر موريتانية مطلعة، تبادل معمق للرأي حول التعاون الثنائي لكن، وهذا مربط الفرس، حول الوضع في منطقة الساحل التي أصبح لروسيا فيها وجود عسكري وأمني كبير عبر شراكتها مع مالي، وعبر ما ينتظر من إقامة لشراكة مع بوركينافاسو، وهما شراكتان بديلتان عن شراكة طويلة مع فرنسا. وتأتي زيارة لافروف لموريتانيا في وقت تستعد فيه موريتانيا لاستلام رئاسة مجموعة دول الساحل التي أصبحت مجموعة الأربع بعد انسحاب مالي منها والتي قد تتحول قريباً إلى «مجموعة الثلاث»، إذا واصلت بوركينافاسو اقترابها من روسيا التي تسعى لتفكيك هذه المجموعة المؤسسة أصلاً تحت رعاية فرنسا ولخدمة أهدافها العسكرية والأمنية في الساحل الإفريقي.
وترتبط موريتانيا مع روسيا بعلاقات قديمة، ظلت محصورة في اتفاقيات تعاون في مجالات الصيد والتجارة والمعادن، قبل أن تتوسع بتوقيع اتفاقية للتعاون العسكري يوم 24 حزيران/يونيو 2021، وهي الاتفاقية التي وقعها في موسكو وزير الدفاع الموريتاني حننه ولد سيدي، ونائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين. وشملت هذه الاتفاقية تطوير التعاون العسكري بين الطرفين من أجل تعزيز الثقة المتبادلة وتأمين الأمن الدولي، وتبادل الآراء في القضايا العسكرية والسياسة الدولية والإقليمية في مجال تعزيز الأمن الدولي. كما نصت الاتفاقية على التعاون بين موريتانيا وروسيا في مكافحة الإرهاب وتطوير العلاقات بمجال التدريب العسكري المتبادل، طبياً وهندسياً وثقافياً ورياضياً، مع تبادل الخبرة والتعاون في عمليات حفظ السلام، تحت رعاية الأمم المتحدة وعمليات البحث والإنقاذ البحري ومكافحة القرصنة البحرية. ونصت الاتفاقية على إنشاء لجنة عمل مشتركة لمتابعة تنفيذ الاتفاق المذكور.
حسب محللين الأكيد أن الناتو لا يسعى من وراء إقامة قاعدة عسكرية في موريتانيا لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وحسب، بل تقويض أي محاولة لروسيا للتمدد نحو موريتانيا وساحل المحيط الأطلسي وتهديد الجناح الجنوبي للحلف وبالأخص جزر الكناري الإسبانية. وزيارة لافروف، لا شك أنها ستبحث مع المسؤولين الموريتانيين مسألة إقامة قاعدة عسكرية للناتو على أراضيها، والذي من شأنه تهديد تواجد شركة فاغنر الروسية في مالي. فالحرب الروسية الأوكرانية جعلت الولايات المتحدة أكثر تصميما على طرد فاغنر من إفريقيا، وليس من المستبعد أن تضمها إلى قائمة المنظمات الإرهابية، بعد سلسلة عقوبات فرضتها عليها وعلى قادتها. وتدرك موريتانيا أنها ليست سوى دولة صغيرة سكانيا واقتصاديا وعسكريا أمام قوى عسكرية كبرى بحجم روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين، لذلك لا تريد أن تكون رأس حربة في أي مواجهة بين الكتلتين المتصارعتين.
بالمقابل، تحاول موريتانيا استغلال موقعها الاستراتيجي والتنافس الدولي لاستقطابها، لتحقيق مكاسب على عدة أصعدة، وخاصة الاقتصادية منها والعسكرية. والتوازنات، لعبة تجيدها موريتانيا التي أوقعتها الجغرافيا بين قوتين إقليميتين متنافستين (الجزائر والمغرب)، وكلفها انحيازها لأحد الطرفين وقوع انقلابات عسكرية وعدم استقرار أمني منذ استقلالها عن فرنسا في 1960. وأدركت نواكشوط أن التوازن في علاقاتها مع القوى المتنافسة سواء الإقليمية أو الدولية يضمن لها الاستقرار السياسي والأمني الذي تنعم به منذ 2010. لكن ذلك لم يمنع موريتانيا من البحث عن أدوار إقليمية وتنويع تحالفاتها الدولية. حيث توغلت وحداتها العسكرية في عمق الأراضي المالية، ووجهت ضربات لتنظيم القاعدة الإرهابي، ما أبعد تهديده عن أراضيها، كما تعتبر عضوا مؤسسا في مجموعة الساحل. وعلى الصعيد الاقتصادي، انفتحت موريتانيا على الصين التي تعد الشريك التجاري الأول لها، بينما تستثمر الشركات الأميركية بكثافة في قطاع استخراج الغاز الطبيعي.
أما فرنسا فتمثل الحليف الأمني الاستراتيجي لموريتانيا، لكن دورها تراجع في منطقة الساحل بعد انسحابها العسكري من مالي الصيف الماضي، وإنهائها عملية برخان. ومع فرض روسيا نفسها شريكا رئيسيا لكل من مالي وبدرجة أقل بوركينا فاسو، فلم يبق من مجموعة الساحل الخمس المتحالفة مع فرنسا سوى ثلاث دول، تشاد والنيجر وموريتانيا. ولأن فرنسا مستنزفة في الساحل، وروسيا بحسب محللين تكاد تجهز على ما تبقى لها من نفوذ في المنطقة، فإن الولايات المتحدة وعبر حلف الناتو لا تريد أن تترك المنطقة شاغرة، وتعيد بناء استراتيجية أمنية جديدة في المنطقة تكون ركيزتها موريتانيا. فالأمين العام المساعد للشؤون السياسية في حلف الناتو جافيير كولومينا، عند زيارته لنواكشوط على رأس وفد مهم، في مايو/أيار الماضي، صرح أن "موريتانيا دولة محورية في المنطقة، وشريك رئيس للحلف، وسنكثف التعاون معها خلال الأشهر المقبلة". لذلك فزيارة لافروف، ستسعى لاستقطاب موريتانيا لصفها أو على الأقل تحييدها عن أي صراع مرتقب مع الغرب في منطقة الساحل.
ويظل السؤال المطروح في شأن مستقبل العلاقات الموريتانية الروسية هو: هل سيتمكن الرئيس الغزواني من الجمع بين علاقات تحتاجها بلاده مع روسيا، وعلاقات مع فرنسا التي تنظر إلى الحراك الديبلوماسي الروسي بكثير من القلق والتضايق والانزعاج. وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قد تحدث عن تضايق فرنسا وعصبيتها الناجمة، حسب قوله، عن تراجع «نفوذها الاستعماري الجديد» في إفريقيا، وذلك في مداخلة له أمام اجتماع بالعاصمة موسكو للجنة المجلس العام لحزب «روسيا الموحدة» حول التعاون الدولي ودعم المواطنين في الخارج.
وأضاف خلال حديثه «إن بلاده ترحب بعملية التحرر الشاملة لبلدان القارة الإفريقية».
وأردف لافروف أنه «يظهر ذلك جلياً عند متابعة مثال الانحسار المستمر لمجال النفوذ الاستعماري الجديد لفرنسا وسط وغرب إفريقيا، وهو ما يتسبب في رد فعل عصبي إلى حد ما من قبل باريس، دال على رغبة فرنسا في عدم التخلي عن أي شيء كانت تعتبره ملكاً لها يوما ما».
وشدد رئيس الدبلوماسية الروسية على أن بلاده «تسترشد بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول، والذي بموجبه يحق لكل دولة اختيار شركائها»، عند بناء العلاقات مع الدول الإفريقية.
وتعهد الوزير الروسي بمواصلة «دعم الأصدقاء الأفارقة في مطالبهم العادلة»، مشيراً إلى «أنه من المقرر عقد القمة الروسية الإفريقية الثانية في يوليو المقبل حيث تعمل موسكو لاتخاذ الاستعدادات اللازمة لها».
واتهمت فرنسا روسيا نهاية الأسبوع المنصرم بما أسمته «التورط السياسي الاستعماري الجديد» في إفريقيا، واعتبرت أن باريس «ليست في حالة حرب» مع موسكو. وردت فرنسا على اتهام وجهته لها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بمواصلة التعامل مع الدول الإفريقية من وجهة نظر ماضيها الاستعماري»، فيما قالت المسؤولة الروسية «إن بلادها تبني علاقاتها مع إفريقيا خارج نفوذ الفرنسيين».