الوقت - حسمت الجزائر ملف تزويد الغاز الطبيعي نحو أوروبا بالرهان على إيطاليا بدل اسبانيا، ويدخل قرارها ضمن معاقبة اسبانيا على موقفها المتغير من نزاع قضية الصحراء الغربية.
وقام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بزيارة رسمية الى ايطاليا يومي الأربعاء والخميس الماضيين، وتباحث مع المسؤولين في روما وعلى رأسهم سيرجيو ماتاريلا حول مستقبل العلاقات الثنائية.
وكان لافتا التصريحات التي أدلى بها الرئيس تبون في الندوة الصحفية المشتركة وعكست التوجه الذي ستأخذه العلاقات في تعميق التعاون في مجال الطاقة، وأكد الرئيس الجزائري على التزام بلاده باحترام اتفاقيات تزويد إيطاليا بالطاقة، ثم شدد على تحول إيطاليا الى الموزع الرئيسي للغاز الجزائري في أوروبا.
ودائما في مجال الطاقة، تراهن الجزائر على خط بحري لنقل الكهرباء من الجزائر إلى أوروبا عبر إيطاليا لامتلاكها فائضاً قابل للتصدير، ثم الاتفاق على العمل المشترك بين سونتراك الجزائرية وإيني الإيطالية للتنقيب على موارد إضافية للغاز، وبذلك ستنفرد إيني برخص إضافية للتنقيب عن الغاز على حساب شركات فرنسية وإسبانية.
وتعد إيطاليا الرابح الأكبر من الأزمة التي اندلعت بين الجزائر واسبانيا بسبب القضية الصحراوية، فقد اتفقت الجزائر واسبانيا خلال الصيف الماضي على تطوير العلاقات التجارية والاستثمارات في مجال الطاقة وبالخصوص الغاز، وكانت الجزائر تفكر في جعل اسبانيا مقدمة لتوزيع جزء مهم من الغاز الطبيعي نحو أوروبا.
ولكن قيام اسبانيا بتغيير موقفها في نزاع القضية الصحراوية، عندما أعلنت عن دعم الحكم الذاتي، المقترح الذي طرحه المغرب على مجلس الأمن سنة 2007 لحل النزاع الصحراوي، قررت الجزائر سحب سفيرها واتهمت مدريد بنهج الخيانة في العلاقات الدولية بين الطرفين.
وتعول أوروبا على الغاز الجزائري كجزء من مخططها القاضي بالتقليص من استيراد الغاز الروسي بسبب العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وتريد تطوير آبار حقول الغاز في الجزائر، وتنخرط الجزائر في هذه الدينامية شريطة جعل إيطاليا هي المنفذ للغاز نحو المانيا وبعض دول أوروبا الشرقية ودون المس بحصة روسيا من السوق الأوروبية.
واعتبرت أوساط سياسية جزائرية أن إعلان الرئيس عبدالمجيد تبون عن اعتزام بلاده حصر توزيع الغاز إلى أوروبا عبر إيطاليا لا يخلو من خلفيات سياسية في علاقة بالتوتر القائم مع إسبانيا.
وتقول الأوساط ذاتها إن الاحتفاء الإيطالي المميز الذي حظي به تبون، حيث تم استقباله منذ وصوله بمقاتلات حربية، ليس غريبا بالنظر إلى حجم الاتفاقيات ولاسيما في مجال الطاقة التي وقعتها روما مع الجزائر والتي من شأنها ليس فقط أن تغطي حجم النقص لديها بل أيضا تمنحها أفضلية توزيع الغاز الجزائري إلى باقي أوروبا.
وتوضح هذه الأوساط أن روما استغلت بشكل جيد ما تمر به العلاقات بين الجزائر وإسبانيا من فتور، لتتربع على عرش الشراكة مع الجزائر في ملف الطاقة، في ظرفية دولية دقيقة جدا مرتبطة بتهافت الدول على هذه المادة نتيجة تبعات الأزمة الأوكرانية المستمرة.
ويرى مراقبون أن الجزائر تبدو مستعدة للذهاب بعيدا في تصعيدها مع إسبانيا، على خلفية الموقف من الصحراء، وهذا الوضع خدم بشكل كبير إيطاليا.
ووقعت شركة الطاقة الإيطالية العملاقة “إيني” مذكرة تفاهم الخميس مع شركة “سوناطراك” الجزائرية لتعزيز التنقيب عن الغاز بحضور تبون ورئيس الوزراء الإيطالي.
وقالت “إيني” في بيان إن مذكرة التفاهم “ستسمح لسوناطراك وإيني بتقييم إمكانات الغاز وفرص تسريع الاستغلال في حقول محددة اكتشفتها بالفعل سوناطراك في الجزائر”.
وأضافت الشركة الإيطالية إن كميات الغاز المتوقعة من المناطق المشمولة بالاتفاق تبلغ نحو ثلاثة مليارات متر مكعب سنويا. وأوضحت أن تلك الكميات “ستسهم في زيادة الطاقة التصديرية للجزائر إلى إيطاليا عبر خط أنابيب ترانسميد” الذي يمر تحت البحر.
وذكر البيان أن مذكرة التفاهم تشمل أيضا التقييم الفني والاقتصادي لمشروع تجريبي للهيدروجين الأخضر في بئر “رباع شمال” بالصحراء الجزائرية.
وتعتبر أستاذة العلاقات الدولية، عابر نجوى، أن العلاقات الدولية تقوم على مبدأ التوازن، والتحول في الموقف الإسباني كانت دافعاً للجزائر حتى تراجع اتفاقات الشراكة القائمة مع الضفة الشمالية، ويبدو أن الطرف الإيطالي أكثر تقارباً وقابلية للتعاون، لكن من الضروري التنويه بأن الدفع بإيطاليا للتفاوض مع الجزائر لا يلبي رغبة روما منفردة، وإنما جاء بتأييد أوروبي وتوجيه أميركي، حيث عملت واشنطن في هذه الفترة على توزيع الأدوار بين الشركاء الأوروبيين، وتواصل أن الشراكة الجزائرية الإيطالية مهمة لكلا البلدين وحتى بالنسبة إلى الطرفين الأميركي والأوروبي، غير أن الصراع يبقى قائماً بين حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة والقوى العالمية وأيضاً الإقليمية الصاعدة.
ويبين الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، محمد شراف، أن حروب الغاز تشعل التحالفات في المتوسط، وتفعل الدبلوماسية الاقتصادية، والدبلوماسية الجزائرية تسرع منذ أشهر وتيرة اتصالاتها لتفعيل شراكات اقتصادية متينة في بيئة دولية تشهد تنافساً على الكثير من التجاذبات السياسية، لكن هل تتوجه الجزائر فعلياً نحو استراتيجية اقتصادية جديدة أم إنها تعالج أمورها السياسية مع شركاء المنطقة عبر القنوات الاقتصادية؟ مبرزاً أن طريقة الاستقبال التي حظى بها تبون تؤكد النيات الإيطالية في رفع حالة التقارب الاقتصادي والانفراد بالميزة التفضيلية مع الجار الجزائري والاستثمار في الند السياسي مع فرنسا وفي التوتر مع إسبانيا، وخاصة أن الزيارة تأتي في أعقاب فشل إيطالي ذريع في توفير بديل ولو مؤقتاً، لمشكلة الغاز الروسي مع استمرار الأزمة الأوكرانية.
ويتابع شراف، أن إيطاليا وافقت على عقد غازي طويل الأمد وصف بـ"التاريخي" يقضي بزيادة الغاز نحو روما إلى تسعة مليارات مكعب يومياً، ورفع نسبة التزويد إلى أكثر من 40 في المئة، والواضح أن الجزائر تسعى لاستبدال الفتور السياسي مع مدريد، في شكل معاقبتها على التحول بالمواقف وخاصة ما تعلق بقضية الصحراء الغربية، وقال إن الجزائر بصدد إعادة رسم معالم المشهد الجيوسياسي الجديد لعالم ما بعد جائحة كورونا.
يعتبر التقرب من إيطاليا أكثر عقاباً لإسبانيا نوعاً ما، نظير تخليها عن مواقفها التاريخية ومسؤولياتها تجاه القضية الصحراوية، وهذا عن طريق جعل إيطاليا معبراً رئيساً للطاقة من أفريقيا نحو أوروبا، لكن الأمر لا يتوقف هنا، فالتقارب ليس أحادي الجانب، فحتى الإيطاليون يرغبون في رفع مستوى العلاقات مع الجزائر، حيث تبحث روما أيضاً عن موطئ قدم في أفريقيا، وعن شريك يقاسمها وجهات النظر في المسألة الليبية، وعن مورد للطاقة يضمن لها استقراراً أكثر، وقد وجدت كل هذا في الجزائر وحفاوة الاستقبال التي حظي بها الرئيس تبون تعكس الاهتمام الإيطالي.
من الصعب توقع مستقبل المنطقة، فأجزاء عديدة منها تعاني هشاشة وعدم استقرار، ومن المستبعد أن تتغير الأوضاع بشكل واضح في السنوات المقبلة، لكن الأكيد أن دور الجزائر فيها يتعاظم يوماً بعد يوم.