الوقت - رفعت الحكومة الأرمينية مؤخراً، في خطوة لافتة، حظر استيراد البضائع التركية، هذا القرار الذي اتخذ منذ العام الماضي. حيث كان حظر يريفان استيراد البضائع التركية ردا على دعم تركيا لجمهورية أذربيجان في حرب قره باغ التي استمرت 44 يوماً في عام 2020. تم فرض هذا الحظر لأول مرة في 31 ديسمبر 2020 لمدة ستة أشهر وتم تمديده في يوليو 2021 لمدة ستة أشهر أخرى. وبحسب حكومة يريفان، فإن هذا القرار يبدأ بداية العام الجاري (2022).
وحسب وزير الاقتصاد الأرميني، تم رفع الحظر بسبب عواقبه التضخمية، ومن المتوقع في خطوة متبادلة أن ترفع تركيا الحظر المفروض على الواردات من أرمينيا قريبا، إضافة إلى ذلك، كانت هناك تقارير تفيد بأن الحكومتين الأرمنية والتركية قررتا إصدار تصريح رحلات مباشرة بين يريفان و اسطنبول. ففي الواقع، هناك مؤشرات على استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين يريفان واسطنبول. كل ذلك يأتي في وقت من المقرر أن تبدأ فيه المحادثات بين المبعوثين الخاصين للبلدين لتطبيع العلاقات في روسيا في الشهر المقبل.
ومن هنا يطرح السؤال التالي، لماذا اتخذ البلدان، تركيا وأرمينيا، خطوة في ظل الاوضاع الجديدة نحو إقامة علاقات دبلوماسية وربما تطبيع العلاقات؟ للإجابة على هذا السؤال ، من الضروري أولاً بحث العلاقة التاريخية بين الجانبين وعرض الأسباب والعواقب المحتملة لتطبيع العلاقات بينهما.
ثلاثة عقود من العلاقات المتعركة بين أنقرة ويريفان
كان لدى تركيا من بين جميع الدول التي تشترك معها في الحدود أضعف العلاقات مع أرمينيا منذ الاستقلال. ومع ذلك، كانت تركيا من أوائل الجهات الفاعلة التي اعترفت باستقلال أرمينيا في 16 ديسمبر 1991. ورغم ترحيب حكومة بتروسيان أول رئيس لأرمينيا بخطوة أنقرة تلك، إلا أن تصعيد أزمة قره باغ في عام 1993 أشعل فتيل أولى الخلافات بين البلدين. ورغم استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين عام 1995 إلا أن العلاقات بين البلدين لم تصل بعد إلى مستوى إقامة العلاقات الدبلوماسية.
قضيتان رئيسيتان كانتا على الدوام العقبة الرئيسية أمام العلاقات بين البلدين. فمن ناحية، كان المسؤولون السياسيون الأرمن يطالبون الحكومة التركية دائماً بالاعتراف بمجزرة عام 1915 بحق الأقلية الأرمنية التي كانت تقطن في كنف الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى على أنها إبادة جماعية، لكن أنقرة رفضت ذلك بشدة. ومن ناحية أخرى، شكل دعم أنقرة الكامل والمستمر لجمهورية أذربيجان خلال نزاع قره عقبة رئيسية أمام إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين.
جميع هذه العوامل منعت أرمينيا وتركيا من إقامة علاقات دبلوماسية على الرغم من الحدود المشتركة في العصر الجديد. ومع ذلك، وقع دبلوماسيون كبار من البلدين في عام 2009 بروتوكولات بشأن العلاقات الدبلوماسية ومبادئ العلاقات في زيورخ بسويسرا، لكن هذه الوثائق لم تتم الموافقة عليها من قبل الجانبين ابداً، وأعلنت أرمينيا لاحقا إلغاء البروتوكولات في عام 2018.
دخول يريفان وأنقرة في قناة تطبيع العلاقات
رغم عقود من تعكر صفو العلاقات بين أنقرة ويريفان، أعلنت حكومة رئيس الوزراء الأرميني الحالي نيكول باشينيان عن استعدادها لإجراء محادثات غير مشروطة مع أنقرة. وفي هذا السياق، ستعقد الشهر المقبل في موسكو الجولة الأولى من المحادثات الرسمية بين البلدين منذ عام 2009. وبحسب وزير الخارجية التركي مولود تشاويش اوغلو، فإن تعيين موسكو كمضيف للجولة الأولى من المحادثات بين الجانبين يأتي بناءً على طلب أرمينيا وسيعمل الجانبان من أجل السلام.
وفقًا لتقارير إعلامية، فإنه في المرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين سيرأس عضو هيئة رئاسة البرلمان الأرميني روبين روبينيان وفد بلاده إلى محادثات موسكو. وعلى الجانب الآخر من طاولة المفاوضات، سيرأس الوفد التركي السفير السابق لتركيا لدى الولايات المتحدة سردار كيليتش.
ورغم رغبة الطرفين في تطبيع العلاقات، من الضروري الإشارة إلى أن حجم الخلافات والتوترات بين الطرفين كبيرة لدرجة أن إقامة العلاقات الدبلوماسية بسرعة أو حتى على المدى القصير يبدو مستحيلاً إلى حد كبير. فقضايا مثل الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن في عام 1915 ، والاعتراف بمعاهدة قارص، وتحديد معادلات إعادة فتح الحدود والاتفاق على البروتوكولات الدبلوماسية ستكون من ضمن المحادثات أمام الأطراف.
أسباب رغبة الطرفين في تطبيع العلاقات
فيما يتعلق بأسباب رغبة أرمينيا وتركيا في تطبيع العلاقات، من الضروري الانتباه إلى حقيقة أنه قبل مناقشة أسباب الأتراك، من الضروري بحث أسباب ليونة أرمينيا في مناقشة إقامة العلاقات مع أنقرة. بشكل أساسي، لم تضع الحكومة التركية منذ تأسيس أرمينيا في عام 1991 أي عقبات أمام إقامة العلاقات الدبلوماسية، لكن أرمينيا هي التي قدمت شروطها الخاصة ومنعت إقامة العلاقات. في الوضع الراهن، وعلى الرغم من مشاكل مثل الأزمة الاقتصادية في تركيا ، والأزمة السياسية لحزب العدالة والتنمية ، وحاجة أردوغان إلى زيادة هيبته على المستوى الإقليمي ، وما إلى ذلك ، لا يمكن أن يكون أساس القضية مرتبطاً بالاحتياجات الخاصة لأنقرة .
وفيما يتعلق بأسباب حكومة لنيكول باشينيان في الرغبة في تطبيع العلاقات مع تركيا، أكثر من أي قضية أخرى ، يجب الاشارة الى الدافعين الاقتصاديين والسياسيين. ففي الدافع الاقتصادي، من المهم ملاحظة أن الحكومة الأرمينية في أزمة اقتصادية ، وكان لوقف الاستيراد من تركيا تأثير تضخمي على اقتصاد البلاد. لكن الأهم بالنسبة ليريفان هو خفض الإنفاق العسكري بسبب التوترات على حدودها مع أذربيجان وتركيا.
تواجه أرمينيا العديد من المشاكل الاقتصادية وانخفاض المستوى المعيشي لمواطني هذا البلد من حيث مؤشرات الرفاهية العامة بسبب حالة الحرب مع جمهورية أذربيجان على منطقة قره باغ، حيث خصصت الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي للنفقات العسكرية. فهي تحتل المرتبة الثامنة في العالم في الإنفاق العسكري من خلال انفاق 6.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على هذا الأمر، حتى في السنوات التي أعقبت عام 2009 ، رفعت الدولة ميزانيتها العسكرية إلى نحو مليار دولار أو أكثر ، وهو مبلغ يبدو ضخماً مقارنة بميزانيتها.
عموماً يمكن القول أن حشد الموارد الاقتصادية في اتجاه تجهيز وتأمين الأسلحة العسكرية لمواجهة أذربيجان كان له العديد من الآثار السلبية على يريفان. لذلك يبدو أن حكومة باشينيان تسعى عبر اتخاذ موقف واقعي إلى الحد من التوترات مع باكو من خلال قناة تطبيع العلاقات مع تركيا، وبالتالي تقليل الإنفاق العسكري. في الحقيقة، تدرك يريفان مدى تأثير الحكومة التركية على جمهورية أذربيجان لذلك تعتزم على الأقل الحد من بعض الضغوط السياسية والعسكرية في حدودها مع البلدين.