الوقت - بعد سنوات من المنافسة والتوتر الشامل بين تركيا والعالم العربي في غرب آسيا وشمال إفريقيا، شهدت الأشهر الأخيرة علامات على تراجع المنافسة والانتقال إلى التهدئة.
تُظهر مواقف وسياسات رجب طيب أردوغان أنه وضع الواقعية والبراغماتية على أجندة سياسته الخارجية. لكن المتابعين لخفض التصعيد هذا يعتقدون أن الرئيس التركي لم ينجح حتى الآن في تبني مقاربته الجديدة، ويبدو أن أنقرة سيكون في موقف ضعيف في محاولة إعادة بناء العلاقات مع الجبهة المناهضة للإخوان في المنطقة، والتي تضم السعودية ومصر والإمارات.
من الاصطفافات الحادة مع وضد الإخوان في المنطقة إلى الانتقال إلى التهدئة
في السنوات التي تلت عام 2011، يبدو أن تركيا والدول العربية، بقيادة السعودية والإمارات، يمكن أن تكون لديهما مجالات تعاون وتنسيق مع بعضهما البعض. لكن خلافًا للاعتقاد الأولي، فإن صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر بقيادة محمد مرسي، دق ناقوس الخطر الأول للدول العربية.
لكن بعد انقلاب 2013 في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي، اندلعت مواجهة إقليمية كبرى بين العرب وتركيا. وهذا الاستقطاب لم يتضاءل في السنوات الأخيرة فحسب، بل اتخذ أيضًا أبعادًا أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة، مثل الأزمة الليبية.
فمن ناحية، الدول العربية المحافظة، المتأثرة بشدة بأفكار وسياسات ولي عهد الإمارات محمد بن زياد، تشعر بقلق عميق من وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في المنطقة. ومن ناحية أخرى، دعمت أنقرة جماعة الإخوان في شكل التعاون السياسي وحتى العسكري.
بشكل عام، يمكن القول إنه في السنوات الأخيرة، أصبح دعم جماعة الإخوان المسلمين أو معارضتها استقطابًا نشطًا وديناميكيًا على المستوى الإقليمي، وقد تجلت عناصره الأساسية في التطورات السياسية في تونس وليبيا ومصر وسوريا وغيرها.
لكن بعد سنوات من التوترات المتزايدة، يحاول أردوغان الآن تحسين العلاقات مع الکيان الإسرائيلي ومصر والسعودية والإمارات. في الواقع، يحاول أردوغان استخدام التقارب مع الدول العربية کأداة أمام الضغط المحتمل من الإدارة الأمريكية، ومن ناحية أخرى، منع تشکيل التحالفات المعادية لتركيا على مستوى المنافسات الجيوسياسية.
لذلك، فإن أردوغان كداعم للإخوان المسلمين في المنطقة، يرى أن التوترات الإقليمية مع الدول العربية والمنافسين الإقليميين في البحر الأبيض المتوسط والولايات المتحدة، لا تخدم مصلحة تركيا. واللقاء الأخير بين أردوغان ومستشار الأمن القومي الإماراتي، يظهر ذوبان الجليد بين البلدين.
طعنة سعودية إماراتية في ظهر ترکيا في ليبيا وتونس
على الرغم من ميل أردوغان الخاص إلى نزع فتيل التوترات مع مصر والإمارات والسعودية، يتصرف العرب على مستويات مختلفة من الأزمة على عكس نهج تركيا وسياساتها. ويمكن رؤية مثال واضح على ذلك في التطورات الأخيرة في تونس وليبيا.
في تونس، أمر الرئيس قيس سعيد، في خطوة شبه انقلابية ومفاجئة، بإقالة هشام المشيشي من رئاسة الوزراء وتعليق عمل البرلمان لمدة 30 يومًا. إجراء قيس سعيد هذا بالمعنى الصريح يعني شبه انقلاب لطيف العلمانيين والجبهة المناهضة للإخوان في تونس ضد حزب "النهضة" وراشد الغنوشي زعيم هذا الحزب الإخواني. ويأتي هذا في وقت يمكن أن نعتبر فيه السعودية والإمارات المؤيدين الرئيسيين لهذه التطورات.
وبعد قيام قيس سعيد بإقالة رئيس الوزراء وتعليق عمل البرلمان، اعتبر المتحدث باسم "حزب العدالة والتنمية" التركي "عمر جيليك" تعليق البرلمان وإقالة الحكومة انقلاباً ضد الشرعية السياسية في تونس.
کذلك، في اليوم نفسه بعد أمر الرئيس، اتهم راشد الغنوشي زعيم النهضة ورئيس البرلمان التونسي، وسائل الإعلام الإماراتية بأنها تقف وراء أحداث تونس واستهداف حركة النهضة. كما کشف المغرّد السعودي الشهير "مجتهد" على تويتر: أن "الإمارات والسعودية قد وعدتا رئيس تونس دفع 5 مليارات دولار له مقابل نجاح الانقلاب".
على مستوى آخر، في ليبيا، يبدو أن الدول العربية تسعی لإخراج تركيا من الساحة. في الواقع، بعد تدخل تركيا الجاد في الحرب الأهلية الليبية منذ يونيو 2020 وهزيمة قوات حفتر، وکذلك وصول الطرفين إلى مدينة "سرت" كنقطة حيوية بينهما، ثم التحذير المصري من التدخل العسكري المباشر، أعلنت الأطراف المعنية وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، مع التأکيد علی الحلول الدبلوماسية.
وبعد ذلك، استمرت المحادثات السياسية حول الأزمة الليبية(2020 أكتوبر في جنيف ونوفمبر 2020 في تونس). وأخيراً، اتفقت المجموعتان المعاديتان الرئيسيتان في الحرب الأهلية الليبية في 5 يونيو 2020 على تشكيل حكومة انتقالية جديدة.
ونتيجةً لذلك، تم اختيار محمد يونس المنفي، وهو دبلوماسي من شرق ليبيا، كرئيس للمجلس الرئاسي الليبي، وعبد الحميد دبيبة، وهو رجل أعمال، رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية الليبية.
وبالنسبة للوضع المقبل أيضاً، تقرر إجراء أول انتخابات ليبية في 24 ديسمبر 2021، نتيجة توافق الجماعات المتعارضة في البلاد علی تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، لكن النقطة المهمة هي أنه مع انتخاب رئيس الجمهورية بشکل مباشر، تسعی الدول العربية بقيادة مصر إلى إضعاف وتهميش تيار الإخوان داخل ليبيا وإبعاده من السلطة في المستقبل.
موقع أردوغان الضعيف في محادثات التهدئة والمعادلات الإقليمية الجديدة
مع خطة الدول العربية الخاصة لاستغلال مسألة خفض التوترات مع تركيا لصالح سياساتها المطلوبة، يمكن القول إن أردوغان في موقف ضعيف لتحقيق سياسته الجديدة، ويواجه عقبات خطيرة لتحقيق أهدافه.
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن استراتيجية أردوغان في خفض التوترات مع الدول العربية لم تحقق إنجازًا لتركيا علی المستوی الاقتصادي. إذ يعتمد الاقتصاد التركي اعتماداً كبيراً على الاستثمار الأجنبي الواسع، ولكن جهود أنقرة لخفض التوتر مع العرب لم تؤد حتى الآن إلی تدفق الدولارات النفطية إلى تركيا.
في الوضع الحالي، لدى الشركات التركية العامة والخاصة ديون کبيرة، ومؤشر نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في هذا البلد هو واحد من أعلى الأرقام في العالم بأسره. کما بلغت التسوية الحالية في الاقتصاد التركي أكثر من 51 مليار دولار، الأمر الذي جعل من الضروري لحكومة أردوغان استثمار 200 مليار دولار سنويًا.
وعلى الرغم من ليونة أردوغان أمام العرب ومحاولته التقارب مع إدارة جو بايدن، فإن الليرة التركية تواصل الهبوط على الرغم من ضخ الحكومة العملة الأجنبية، والتضخم في البلاد يرتفع بسرعة، ويدخل الاقتصاد التركي حالة الركود التضخمي. ومجموع هذه العملية قد أضعف موقف أردوغان في محادثات خفض التوتر مع الدول العربية، بسبب نقاط الضعف الاقتصادية واسعة النطاق.
على المستوى الآخر، نرى أن أي معارضة تركية لمواقف ومطالب الدول العربية في خلافاتها مع بعضها البعض، رد الفعل العربي الحاد وتعليق عملية خفض التوتر.
على سبيل المثال، في أعقاب التطورات في تونس، التي قام فيها التيار المناهض للإخوان بما يشبه الانقلاب ضد حزب النهضة، توقفت عملية خفض التوتر بين تركيا مع الدول العربية بشكل عام، ومع مصر بشکل خاص.
وفي هذا السياق، أعلنت المصادر الدبلوماسية المصرية أن عملية المحادثات بين القاهرة وأنقرة لتطبيع العلاقات واجهت "انقطاعاً تكتيكياً". وقد خلق مثل هذا الوضع تقييداً خاصاً لرجب طيب أردوغان، ووضعه عملياً في موقع صعب فيما يتعلق باتخاذ المواقف الصلبة تجاه القضايا المختلفة في سياق عملية خفض التوتر مع العرب.