الوقت - لقد أربكت التطورات السريعة في أفغانستان، العديد من دول المنطقة والعالم في سياستها الخارجية. ومن الدول التي سعت إلى صياغة استراتيجيتها الجديدة في ضوء التطورات الجارية في أفغانستان، هي تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان.
وفي هذا الصدد، أعلن أردوغان عن استعداده لاستضافة قادة طالبان والتفاوض معهم حول جميع القضايا، بما في ذلك استمرار وجود القوات التركية في أفغانستان. هذا في حين أن حركة طالبان قد نفت، في بيان أصدرته، تواجد جميع القوات الأجنبية في البلاد.
على مدار الشهرين الماضيين، كانت أنقرة تنسق مع الأمريكيين لتوسيع أنشطتها العسكرية لتوفير أمن مطار كابول الدولي بعد انسحاب قوات التحالف.
مسؤولو أنقرة الذين راهنوا في السابق على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان والتفاعل مع حكومة أشرف غني، أجروا محادثات مع الأمريكيين حول وجودهم العسكري في أفغانستان. وکانوا يعتقدون أنه بهذه الطريقة يمكنهم الحصول على تنازلات دبلوماسية من واشنطن.
وفي هذا الصدد، أعلنت تركيا قبولها مسؤولية حماية مطار كابول بعدة شروط. وقد جدد رجب طيب أردوغان، في مؤتمر صحفي الإثنين، مهمة تأمين مطار كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، قائلاً إن ذلك مشروط بموافقة الولايات المتحدة على شروط معينة من أنقرة.
وشدد أردوغان على أن الشرط الأول لتركيا هو أن تكون الولايات المتحدة إلی جانب تركيا في علاقاتها الدبلوماسية، والشرط الثاني هو أن تقدم الخدمات اللوجستية لتركيا، وفي حال حدوث مشاكل مالية وإدارية خطيرة، على الأمريكيين تقديم الدعم اللازم لتركيا.
أهمية أفغانستان بالنسبة لأنقرة
الحقيقة هي أن التطورات في أفغانستان مهمة لتركيا من عدة زوايا.
أ: تحاول أنقرة زيادة الضغط على منافسيها الإقليميين، بما في ذلك روسيا والصين وإيران وحتى السعودية في آسيا الوسطى، من خلال السيطرة علی استراتيجية السياسة الخارجية لحكومة طالبان الجديدة في أفغانستان.
يدرك أردوغان جيدًا الأهمية الاستراتيجية لأفغانستان في جغرافية روسيا والصين، فضلاً عن دورها في باكستان كحليف للسعودية. وترى أنقرة أن التأثير على استراتيجية السياسة الخارجية لطالبان، سيمنح تركيا اليد العليا في العلاقات الإقليمية مع خصومها التقليديين، وهو أمر مهم لهذا البلد بأبعاد مختلفة.
ب: النقطة الثانية هي عملية تواجد اللاجئين الأفغان في تركيا، والتي بدأت منذ فترة، ونتيجةً لذلك ستتوسع سيطرة طالبان على جميع أنحاء البلاد بشكل كبير.
بينما تواجه تركيا حاليًا 6 ملايين نازح من العراق وسوريا، فإن إضافة الأفغان إلى هذه القائمة قد أثارت غضب الرأي العام التركي بسبب استنزاف موارد البلاد البشرية لصالح اللاجئين الأجانب، واستخدمت بعض جماعات المعارضة هذا التكتيك لتوسيع الاحتجاجات والانتقادات المناهضة لأردوغان.
وتظهر استطلاعات الرأي الحالية أن أكثر من ثلاثة أرباع الشعب التركي يعارضون وجود اللاجئين الأجانب في البلاد، ويعتقدون أنه يجب عليهم العودة إلى بلدانهم الأصلية.
من ناحية أخرى، لم يتضح بعد ما إذا كان تفاعل الحكومتين الأمريكية والتركية مع التطورات الجادة في أفغانستان يقوم على نوع من التنسيق، أو ما إذا كان أردوغان ليس لديه نظرة إيجابية تجاه التحركات السياسية الأمريكية في هذا المجال.
وهذا الأمر، في ظل ازدواجية مواقف الشخصيات الحكومية الترکية بشأن الانتقاد من تحوُّل هذا البلد إلى غرفة انتظار، وفي نفس الوقت الترحيب بالمحادثات مع الولايات المتحدة بشأن الوضع في أفغانستان، يضع طبيعة هذه العلاقات في هالة من الغموض.
ورغم أن الهدف الحقيقي للحكومة التركية من استغلال اللاجئين الأفغان لصالحها غير واضح، ولکن يبدو أن هذا البلد يواجه تحديًا خطيرًا في هذا الصدد.
هذا في حين أن أحد أسباب توجُّه الأفغان إلى تركيا، هو إعلان الحكومة الأمريكية أن الأفغان يجب أن يتقدموا للحصول على الجنسية الأمريكية في دولة ثالثة، ومعظم الأفغان يعتبرون التواجد في تركيا أفضل خيار لهم.
وفي هذا الصدد، بينما تعتقد الحكومة الترکية أنها تنتهج خططها الاستراتيجية وفقاً للمصالح الوطنية، إلا أن بعض منتقدي الحكومة أعلنوا أن أردوغان قد استسلم لمطالب وإملاءات واشنطن.
حيث اتهم وزير الثقافة التركي السابق فكري ساغلار، على حسابه على تويتر، حكومة أردوغان بالاستسلام لإملاءات بايدن وفتح أبواب تركيا أمام اللاجئين الأفغان.
کما أعرب عن قلقه من احتمال وجود خطة سرية وافقت عليها واشنطن وأنقرة، لاستخدام اللاجئين في مهام سرية وخطيرة في أفغانستان أو أجزاء أخرى من العالم. تمامًا مثل ما حدث للاجئين السوريين، حيث نُقل بعضهم إلى الحرب في ليبيا أو الحرب في ناغورني كاراباخ. طبعاً، النظام الحاكم في تركيا لا يهتم بمنتقديه في الوضع الراهن، نتيجةً للمكانة التي اكتسبها في الانتخابات المتتالية على مدى العقدين الماضيين.
کما أظهرت الحكومة التركية في الماضي أنها تستغل أوضاع النازحين لمصالحها المالية. وفي هذا الصدد، طلبت أنقرة نحو 6 مليارات يورو من أوروبا لمنع توجُّه اللاجئين السوريين إلى الدول الأوروبية.
ويقال إن الإيرادات المالية لأنقرة من تهريب المهاجرين بلغت 3 مليارات دولار بين 2011 و 2017، وخلال هذه الفترة غادر مليون ونصف شخص تركيا إلى أوروبا.
من ناحية أخرى، يعتقد الخبراء المنتقدون لوجود اللاجئين الأفغان على الأراضي التركية، أن الغموض في ميول هؤلاء الأفراد وارتباطهم المحتمل بالقاعدة وداعش وطالبان، يمكن أن يعرض البنية التحتية الأمنية لتركيا ونسيجها الاجتماعي والسياسي للخطر.
ج: البعد الثالث لأهمية أفغانستان في سياسات أنقرة، يتعلق باستراتيجية أردوغان العسكرية في السنوات الأخيرة، القائمة على الوجود العسكري في بعض دول الجوار والمنطقة.
وكانت هذه القضية هي التي دفعت الأتراك إلى التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن وجود القوات التركية على الأراضي الأفغانية، وستكون المحور الرئيسي للمفاوضات المحتملة مع طالبان في المستقبل.
د: تحاول تركيا لفت انتباه طالبان بعد التحالف الاستراتيجي مع أيديولوجية الإخوان المسلمين العابرة للمنطقة. وفي هذا الصدد، شدد أردوغان في 20 يوليو/تموز الماضي، وبالتزامن مع توقعه لإجراء محادثات محتملة مع طالبان، على أنه لا يوجد خلاف في الرأي بين تركيا ووجهات النظر الأيديولوجية لطالبان.
وفي السياق نفسه، يسعى الأتراك إلى استخدام إمكانات قطر كواحدة من أهم حلفائها الإقليميين، للتأثير على نهج السياسة الخارجية لطالبان في حكم أفغانستان المستقبلي.
ولهذا السبب، تواصل أردوغان من قبل مع الشيخ تميم، أمير قطر، الذي يستضيف وفد طالبان، وحاول الانخراط في قضايا مختلفة، بما في ذلك المحادثات بين الحكومة الأفغانية وطالبان.
الغموض في الأفق السياسي للمنطقة
على الرغم من أن طالبان سبق لها أن حكمت أفغانستان، إلا أن نهج طالبان الجديد كحركة مختلفة عن السنوات السابقة، قد ضاعف من تعقيد التعامل مع هذه الجماعة في استراتيجية السياسة الخارجية لدول المنطقة، الأمر الذي أدخل آفاق العلاقات الإقليمية في هالة من الغموض.
کذلك، وسط تزايد وجود قوات طالبان في أفغانستان، سارعت الولايات المتحدة في سحب قواتها والذي کان من المقرر أن يتم بنهاية أغسطس. وفي هذا الصدد، هناك مخاوف في الدوائر الأمريكية والتركية من سيطرة عناصر طالبان علی مطار كابول.
لذلك، اتبعت تركيا سياسة الهروب إلى الأمام تجاه التطورات في أفغانستان، وأعلن أردوغان استعداد أنقرة لإجراء محادثات مع طالبان، معربًا عن أمله في إمكانية التوصل إلى اتفاق في هذه المحادثات.
هذا في حين أن طالبان قد رفضت الأسبوع الماضي وجود قوات أجنبية لتأمين مطار كابول، ووصفته بأنه احتلال من شأنه أن يثير رد فعل من الحركة.
على الرغم من أن ردود أفعال الدول المختلفة تجاه التطورات في أفغانستان مختلفة، وبسبب صمت بعض الدبلوماسيين الإقليميين، تحاول بعض الدول فرض نفسها على التطورات في أفغانستان، ولكن يبدو أن القاسم المشترك لجميع دوائر صنع السياسة في العالم، هو الغموض والشك بشأن مستقبل إدارة طالبان الجديدة في أفغانستان.
وهذه القضية يمكن أن تخلق قائمةً جديدةً من أصدقاء وأعداء كابول، وتكون أساسًا لإعلان الدول مواقفها من التطورات في أفغانستان، والأسابيع والأشهر المقبلة هي الکفيلة بحل هذا الغموض.