الوقت- أثار حضور ملايين العراقيين في المظاهرات الأخيرة ضد الاحتلال الأمريکي، مخاوف غير مسبوقة لمسؤولي البيت الأبيض. ولا شك أن هناك صلةً مباشرةً بين الحضور الشعبي الملحمي في تشييع جثمان الشهيد الراحل الفريق قاسم سليماني والملحمة التي رأيناها في بغداد يوم الجمعة الماضي، وهذه الصلة هي أن كليهما نتاج "خطاب المقاومة"، وفي الوقت نفسه "انتفاضة معادية لأمريكا" في منطقة غرب آسيا.
إن مظاهرة يوم الجمعة في العراق ستكون بلا شك "نقطة تحول" في المعادلات المحلية والإقليمية في هذا البلد. ومن أجل التركيز بدقة على خصائص نقطة التحول هذه وتعيين أبعادها، من الضروري النظر فيما يلي.
"التكلفة والمنفعة" هي طريقة منهجية لتقدير مواطن القوة والضعف في البدائل التي تترکها أفعال وتصرفات الشخص أو الهيکل.
لقد ادّعی كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو في اليوم الأول من استشهاد الفريق قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، بأنهما أمرا باغتيال هذين القائدين على أساس "التكلفة-المنفعة" الواقعية، وهما مدرکان لتداعيات هذا القرار! ومع ذلك، في الأيام الأخيرة كان المسؤولون الأمريكيون غير راغبين في الحديث عن "التكلفة" و"المنفعة" لهذا الحادث.
والمكالمات الهاتفية الفاشلة لمايك بومبيو مع 27 وزيراً للخارجية في العالم (رسميًا وغير رسمي)، خلال الساعات الثماني والأربعين الأولى من استشهاد الفريق سليماني والمهندس، تُظهر حقيقةً أنه لن يكون ترامب وكبار الأعضاء في إدارته قادرين على حرفها أو الهروب منها.
وفي هذا الصدد، هناك أدلة من الضروري النظر فيها:
على عكس التقدير الأولي للبيت الأبيض، رفض وزراء خارجية روسيا والصين وحتى فرنسا (كأحد شركاء أمريكا) قبول الحجج الأمريكية لتبرير اغتيال الفريق سليماني في شكل "الهجوم الوقائي".
کذلك، خلافاً للحسابات الأولی للبيت الأبيض، أصبح العراق منبراً للتعبير عن غضب الشعب العراقي المقدس والواسع النطاق بسبب الجريمة الأمريكية، بدلاً من التحول إلى ساحة للعناصر المنحازة لأمريكا والداعمة لخططها في هذا البلد وفي المنطقة بأسرها.
ومن الأفضل لبومبيو أن يرفق مقطع الفيديو لفرحة بضع عشرات من العراقيين (الذي نشره على تويتر)، إلى جانب الآلاف من مقاطع الفيديو المرتبطة بمراسم تشييع جثمان الفريق سليماني في الكاظمين وبغداد والنجف وكربلاء، ثم المظاهرات المليونية غير المسبوقة يوم الجمعة، ليدرك هو والسلطات الأمريكية الخطأ الکبير الذي ارتکبوه في اغتيال الفريق سليماني وأبي مهدي المهندس، وهو الخطأ الذي لا يمکن تعويضه علی الإطلاق.
على عكس الانطباع الأولي للبيت الأبيض، لم تؤدِ دماء الشهيدين الزکية إلى تعزيز موقع أمريكا في المنطقة فحسب، بل أصبحت بشکل مثير للدهشة عاملاً رئيساً في "المطالبة بالانسحاب الفوري للأمريكيين من المنطقة".
وكل ساعة تمر، يجد المسؤولون الأمريكيون أنفسهم في مواجهة "معادلة من جانب واحد"! المعادلة التي لا توجد فيها "منفعة" لهم، وما هو آتٍ في هذه المرحلة وبالطبع في قابل الأيام، هو "التكلفة" فحسب. وهي التكلفة التي لن يتحملها البيت الأبيض والبنتاغون فحسب، بل حلفاء أمريكا وأدواتها الإقليمية والدولية أيضاً.
وجزء مهم من التحذيرات الأخيرة المرسلة إلى البيت الأبيض يرتبط بالتحديد بهذه المحاسبة الخطيرة والرهيبة لترامب وإدارته.
"سوزان رايس" مستشارة الأمن القومي لإدارة أوباما التي كانت أحد مؤسسي داعش في المنطقة وأحد الأعداء الألداء للمقاومة وللقائد سليماني، قالت في تصريحات مهمة مخاطبةً ترامب: "عندما كنت مستشارةً للأمن القومي، لم يقدّم المجتمع الاستخباراتي أو الجيش الأمريكي أي فرصة لمهاجمة [القائد] قاسم سليماني على إدارة [باراك] أوباما. إذا عرض علينا مثل هذه الفرصة، لكنا قد قمنا بتقييم دقيق للغاية لمخاطرها بالقياس إلی منافعها. كنا نقوم بتقييم جميع الطرق التي من شأنها تعزيز أو إضعاف أمننا. لا شك أن مخاطر وتكلفة هذا الإجراء (استشهاد الفريق سليماني) تفوق بكثير الفوائد المزعومة لترامب في هذا الصدد".
في أي حال، لم تعد هنالك فرصة للتكلفة أو المنفعة أو التعويض عن غباء وجريمة المستأجر الحالي للبيت الأبيض! والعاصفة التي أدرکها ترامب مؤخرًا وفي الأيام الأخيرة، تتحرك بسرعة هائلة نحو البيت الأبيض.
ولا شك أن هذه المرة لا يمكن لأحد أن يوقف العاصفة، لا السفير السويسري في طهران ولا الوسطاء العرب والأوروبيون الذين تدعمهم أمريكا.
کان بومبيو محقاً بعد أن رأی عاصفة دعم المقاومة في إيران والعراق، عندما وجد نفسه مضطراً إلی الإمساك بالهاتف کشخص مصاب بالذهان، ووضع دبلوماسية التوسل والرجاء على جدول أعماله لمنع تبلور الغضب الإيراني. وفي هذه الأثناء، لم يعد لغضب وابتسامة المسؤولين الأمريكيين أي محل من الإعراب.
لم يعد الشعبان الإيراني والعراقي يعيران وزناً للبيت الأبيض، بل ينتظران اللحظة التي تغادر فيها القوات الأمريکية أو يتم طردها. وهو الانتقام المقدس والصعب الذي لا تستطيع معاهد الفكر والبحث التابعة للبيت الأبيض محاسبته بل حتی تصوره.
من الأفضل لترامب وإدارته أن يعرفوا هذه الحقيقة: لقد أمر القائدان الشهيدان، أي الشهيد سليماني والشهيد المهندس، بالهجوم مجدداً.