الوقت- بعد شهرين من بدء الاحتجاجات في العراق، والتي بدأت في 1 أكتوبر 2019، ما زلنا نشهد اضطرابات في هذا البلد. ومع ذلك، يجب ألا نقتصر الأزمة السياسية في العراق على الشوارع والاحتجاجات الشعبية، بل يجب النظر إلی الحكام والتيارات السياسية أيضاً.
إذا کانت الأزمة مستمرةً في الشوارع، فإن الأزمة على مستوى الدولة أکثر سوءاً أيضًا، وهذا يعني أن هناك الآن طريقًا مسدودًا في المجتمع، ولا يستطيع الحكام إيجاد طرق للخروج منها. وعلى الجانب الآخر أيضًا، فإن المجتمع والناس ليسوا مستعدين للتراجع عن مطالبهم لينتهي هذا الجمود.
وفي خضم هذا الوضع، زادت استقالة رئيس الوزراء العراقي "عادل عبد المهدي" في 29 نوفمبر 2019 من تفاقم الأزمة أكثر من أي وقت مضى.
حالياً هناك رؤيتان أمام التيارات السياسية العراقية، تتمثل الرؤية الأولی في أن تتوصل التيارات السياسية إلى توافق في الآراء خلافاً للسنوات القليلة الماضية، بأنه بسبب الوضع الحرج الراهن فإن البلاد تحتاج إلى اتفاق سريع وشامل للخروج من الطريق المسدود، وبالتالي تشکيل حكومة جديدة في فترة زمنية قصيرة، أو في غضون شهرين على الأكثر بموجب الدستور.
أما الرؤية الأخری فهي أن نشهد مثل السنوات التي أعقبت عام 2010 حتى الآن، صراعاً حاداً بين التيارات السياسية حول تشكيل حكومة جديدة، وفي هذه الحالة فلا يوجد أفق واضح لتشكيل الحكومة بعد استقالة عادل عبد المهدي في الشهرين المقبلين على الأقل.
يمكن تقييم هذه الرؤية كإحدی أخطر مراحل التاريخ السياسي وأکثرها عواقب في العراق الحديث (بعد 2003)، والتي تهدد مستقبله.
في سياق الدفاع عن هذا الاستدلال، سيستعرض المقال فيما يلي أهم التهديدات التي ستخلقها إطالة أمد تشکيل الحكومة العراقية الجديدة في ثلاثة مستويات:
خلق مساحة تنفس للجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش
بالتأكيد، وكما شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية، وسط الاحتجاجات وأزمة الحكومة المستمرة في تلبية مطالب المتظاهرين، فقد تهيأت الأجواء لظهور التيارات المتطرفة واستغلالها للظروف، وبالتالي سوق الاحتجاجات السلمية نحو العنف والتطرف.
وإذا استمر العجز في تشكيل مجلس وزراء جديد لفترة طويلة، فسيكون هناك بالتأكيد مجال أكبر لهذه الجماعات لمتابعة أهدافها المتمثلة في تقويض الاستقرار في البلاد. طبعاً تجدر الإشارة إلى أن معظم هذه الجماعات مدعومة مالياً ولوجستياً من قبل جهات أجنبية مثل أمريكا والکيان الإسرائيلي والسعودية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الفشل في تشكيل حكومة عراقية جديدة وإطالة أمد الأزمة السياسية في العراق، سيوفر مساحةً کبيرةً للتنفس وحتى ظهور داعش في هذا البلد.
في الواقع، إن غفلة الشعب العراقي والمسؤولين من خلال الالتهاء بالشؤون الداخلية، قد خلقت الفرصة لداعش والأعداء الأجانب لإعادة نشر الانفلات الأمني في المناطق الآمنة وبتكلفة عالية. علی سبيل المثال، يضم سجن "الموت" في الناصرية عشرات الآلاف من داعش، وبالمناسبة هذه المحافظة من المحافظات المضطربة، وقد نفَّذ داعش عمليات لتحرير عناصره.
تدهور الوضع الاقتصادي.. انهيار العملة الوطنية وهروب المستثمرين الأجانب
إذا استمر التأخير في تشكيل الحكومة، والذي سينعکس بطبیعة الحال احتجاجات في شوارع المدن العراقية المختلفة، فإن الاقتصاد العراقي المليء بالديون سيسير حتماً نحو الإفلاس والانهيار.
في الوضع الحالي وبناءً على الإحصاءات المقدمة، فإن الحكومة العراقية لديها أكثر من 100 مليار دولار من الديون الخارجية، وعلى الرغم من ارتفاع صادرات البنزين خلال العامين الماضيين، لا تزال هذه الديون قائمةً.
في هذه المرحلة، التأخير في تشكيل حكومة جديدة يمكن أن يقلل بشكل كبير من قيمة العملة الوطنية العراقية، ومن ناحية أخرى، فإن استمرار انعدام الأمن سيؤدي حتماً إلى جعل الشركات الأجنبية غير راغبة في الاستثمار في مختلف أنحاء العراق، بما في ذلك الإنتاج والصناعة والزراعة والتنمية وغير ذلك.
وفي مثل هذه الظروف، لن يتحسن الوضع فحسب، بل ستزداد نطاق الأزمة في البلاد عن غير قصد، بل يمكن توقع انتشار الاحتجاجات الشعبية أيضًا.
خسارة رأس المال الاجتماعي
القضية الأخرى التي يمكن أن يخلقها التأخير في تشكيل حكومة جديدة في العراق، هي الزوال الحتمي لرأس المال الاجتماعي العراقي.
على المستوى الابتدائي، في غياب المديرين في وظائفهم، سنشهد إهدار مبالغ كبيرة من ميزانية البلاد وثرواتها لمعالجة الأزمات الأمنية، وبدلاً من تسخير مواهب المواطنين العراقيين، وخاصةً جيل الشباب، في طريق الإنتاج وخلق فرص العمل، سوف تضيع في الاحتجاجات في الشوارع.
ومع ذلك، فإن أهم نتيجة لمثل هذا الوضع، هي فقدان ثقة الجمهور في السياسيين العراقيين. في الحقيقة، إن عدم التوافق وعجز التيارات السياسية العراقية في تشكيل حكومة جديدة، سيقلل من ثقة المواطنين في الحكومة، وبالتالي ستکون التكلفة الباهظة هي الاستياء العام من أي حكومة وسياسي جديد سيتولی السلطة.
في مجتمع لا يمكن فيه للمواطنين الاعتماد على أي حركة أو فصيل سياسي، سنشهد حتماً انسداداً في الأفق السياسية، الأمر الذي قد تکون له تكلفة باهظة على الساسة العراقيين، والتي لا يمكن علاجها بسهولة حتى لعقود قادمة.