الوقت- تشويش واضح يضرب السياسة التركية، خاصة القسم المتعلق بسوريا، إذ اصبحت تركيا عاجزة عن الحفاظ على توازنها في سوريا، لدرجة يمكن من خلالها القول أن الأمور في سوريا خرجت عن سيطرتها ولم يعد بإمكانها التأثير على مجريات الأوضاع كما كان الحال في السابق، وسياسة مسك العصا من الوسط بين أمريكا وروسيا باءت بالفشل، وبات على تركيا أن تتخذ خطوات واضحة في المرحلة المقبلة تغير من خلالها سياستها في سوريا وإلا فإن انعكاسات الداخل السوري ستطول مستقبل أردوغان السياسي.
مشكلة تركيا كانت منذ البداية تتمثل في عدم قدرتها على توحيد صفوف المعارضة المسلحة في شمال غرب سوريا، وادّعت أنقرة أنها ضامنة لهذه المجموعات المسلحة، وعلى هذا الأساس تم توقيع سلسلة اتفاقيات مع روسيا لإنشاء مناطق لخفض التصعيد، إلا أن تركيا عجزت عن ضبط المسلحين، الذين استهدفوا مناطق المدنيين في سوريا وقتلوا العديد منهم، ما استدعى تدخل الجيش السوري للرد على هذه الخروقات وحفظ الأمن في البلاد واستعادة المناطق من أيدي المسلحين في شمال غرب البلاد، ولاسيما أن بين هذه الجماعات المسلحة، جماعات مصنّفة على أنها إرهابية مثل "جبهة النصرة" وغيرها.
ما يجري في سوريا يوحي بأن مناطق خفض التصعيد ستنتهي قريباً، وهذا يؤكد صراحةً فشل اردوغان في إدارة الجماعات التابعة له والتي يدعمها، والتي قال إنه يمثلها في محادثات "استانا" و"سوتشي" لنجد هذه المجموعات تسرح وتمرح على كيفها، وتعرّض حياة المدنيين في الأرياف المجاورة لمناطق انتشارها إلى الخطر، ولم تتمكن تركيا من نزع السلاح منهم، الأمر الذي دفع الجيش السوري للتقدّم نحو إدلب لإنهاء هذه التجاوزات وحماية أرواح المدنيين في باقي المحافظات السورية القريبة من إدلب وكذلك حماية المدنيين في إدلب من جرائم المسلحين.
تقدّم الجيش السوري وسيطرته على مناطق استراتيجية مثل "خان شيخون" أغضبت تركيا، ودفعتها إلى ممارسة آخر طقوس ضغوطها على العالم لمنع استعادة سيطرة الجيش السوري على بقية المناطق التي خرجت عن سيطرته وأهمها محافظة "ادلب" وبدأ اردوغان يلوّح للغرب بأنه سيفتح الحدود أمام السوريين للتوجه نحو أوروبا، وهدد اللاجئين أنفسهم الذي يقطنون في تركيا بأنه سيعيدهم إلى بلادهم، ومؤخراً حمّل أردوغان فشله في حفظ مناطق التصعيد للحكومة السورية، وقال إن منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب السورية "تختفي تدريجياً"، بسبب الهجمات التي تشنّها القوات الحكومية السورية.
لا نعلم لماذا يتناسى أردوغان أن الحكومة السورية تعمل على استعادة أراضيها وليس احتلال الأراضي التركية، ولا نعلم لماذا يتعاطى أردوغان مع الأراضي السورية وكأنها جزء من أراضي بلاده، من حقّ سوريا أن تستعيد أراضيها، وإذا كان اردوغان يدّعي أنه يحمل لواء المعارضة السورية، رأينا جميعنا قبل أيام كيف توجّه هؤلاء المعارضون نحو الحدود التركية وتظاهروا ضدّ تركيا وضد ما تقوم به في سوريا.
ما أغضب أردوغان في الحقيقة هو سيطرة الجيش السوري على "خان شيخون"، خاصة وأن أردوغان ينشر في هذه المنطقة الاستراتيجية 12 نقطة مراقبة، كما أدّى تحرير "خان شيخون" إلى استعادة السيطرة على الطرق الدولية بين حلب ودمشق وتطهير ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، وهو ما يوجه صفعة استراتيجية لوجود تركيا في إدلب والشمال السوري لا تزال تسعى في المباحثات مع روسيا التخفيف من تداعياتها.
المراهنة التركية على استغلال نقطة المراقبة في "مورك" لتوفير الدعم والحماية للجماعات المسلحة، ذهبت بأنقرة إلى الدفع بحوالي 50 مركبة حربية بينها 5 دبابات بدعوى حماية الجنود الأتراك في "مورك" والدفاع عن الجماعات المسلحة التي تشاركها "عملية درع الفرات" في الشمال السوري.
ولم يأبه الجيش السوري لتحذير وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو "من اللعب بالنار"، فلا تزال نقطة المراقبة في "مورك" محاصرة وسقطت خان شيخون بعد تشتت الجماعات المسلحة وتبادل تحميل المسؤولية بين هيئة تحرير الشام من جهة وبين الجماعات الأخرى الأكثر التصاقاً بتركيا.
ما تتذرع به تركيا كمخلب قط لوجودها في نقاط المراقبة 12 بناء على اتفاقيات "سوتشي" هو موضع الشك والتسويف الذي توجهه موسكو إلى أنقرة.
فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعبّر عن الوجهة الروسية في دعم الجيش السوري في معارك إدلب بقوله، كنّا نأمل مساعدة تركيا في خفض التصعيد وضبط الجماعات الإرهابية ومنعها من تهديد المدنيين لكن هذا الأمر لم يحصل ولا يبدو أن تركيا قادرة بمفردها على خفض التصعيد ما يستدعي البحث عن وسائل ملائمة في إشارة ربما إلى القمة الرئاسية المرتقبة في 11 سبتمبر بين الدول الضامنة لاتفاقيات خفض التصعيد.
لعل المأزق التركي في فشل المراهنة على حماية هذه الجماعات والتذرع بخفض التصعيد، هو ما يشير إليه رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كجيدار أوغلو الذي يدعو أردوغان إلى الاعتراف بفشل سياسته الخارجية وإعادة العلاقات مع سوريا والتعاون مع الرئيس بشار الأسد، بحسب أوراق التحضير لمؤتمر موسع “لمناقشة الأزمة السورية” في القريب المنظور.
في الحقيقة عملت تركيا لمدة طويلة لمنع سيطرة الجيش العربي السوري على منطقة إدلب في شمال غربي سوريا حيث تم حشد أغلب مقاتلي فصائل التنظيمات المسلحة المعادية لدمشق والتي تضم آلاف المسلحين القادمين من أكثر من 80 دولة، وظنت أنقرة أنها بتوقيع اتفاق سوتشي مع موسكو وتهديدها بالتدخل عسكريا وبدعم من واشنطن، سيمكن تحويل جيب إدلب مع منطقة شرق الفرات إلى سوريا الجديدة البديلة التي ستكون حليفة وتابعة لأنقرة وواشنطن وكل الأطراف التي لا تزال تؤمل في نجاح مخطط إسقاط سوريا وتقسيمها إلى دويلات في نطاق مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي وضعه المحافظون الجدد، والقاضي بتقسيم دول المنطقة إلى ما بين 54 و 56 دولة على أسس عرقية وطائفية ودينية.