الوقت- سيلومني البعض على صراحتي في التعبير وعلى قسوتي في استعمال لغة غليظة جداً في هذه المقالة .. وسيصاب بالخيبة أولئك الباحثون عن خلاصات العطور النقية .. وأولئك الذين يعصرون الكلام كحبات الزيتون ليضيئوا بالزيت قناديلهم .. أو أولئك الذين يطحنون الكلام كالقهوة العربية ليشربوها صباحاً.. وربما يكتشفون أنهم دخلوا حقلاً من حقول النفط الثقيل أو حقلاً للألغام وهم يظنون أنهم دخلوا حقلاً من حقول قصب السكر المسقي بجداول العسل وسواقي الشوكولاتة..
ولذلك فإنني سأقول رأيي ومشاعري تجاه قضية أطلقها القضاء الأمريكي بشأن صحفية قتلت في سوريا.. وسأنزع الأغطية والملاءات عن الكلمات المتقيّحة وأعرض رأيي وأنا في قلب الصلاة والقداس في محراب لا تدخله الغانيات ولا بنات الهوى والراقصات الخليعات..
وإذا أردنا أن نعرف الثقافة الأمريكية وأين فيها الغريزة فما علينا إلا أن ننظر إلى قضية "ماري كالفن" الصحفية (القرصان) التي قتلت في حمص بين المسلحين واتهمت الدولة السورية بقتلها وكأن على الدولة أن تشمّ الهواء كما تفعل الكلاب البوليسية وتحلله لتعرف إن كان فيه أنفاس أمريكية تسللت في غفلة منها فلا تطلق النار باتجاهها.. فتحويل القضية إلى بزنس يدل على مكان الغريزة في الثقافة الأمريكية حيث تنغرز الرغبة في المال والسلب والنهب في عمق الروح الأمريكية كما تنغرز غريزة الذئب في سلوكه وعوائه .. وكل أفلام الغرب الأمريكي تمثّل شرحاً لهذه العقلية والثقافة .. فهي عن صراع بين لصوص وقطّاع طرق من أجل حفنة من الدولارات.. إنه صراع بين الذئاب والكلاب..
سأقول إنني وأنا أمام عائلة وأصدقاء ماري كولفين أريد أن أعزّيهم بفقيدتهم الغالية على قلوبهم.. فهي تعني لهم الكثير طبعاً.. ولا يحقّ لنا أن نسخر من وجعهم ومن آلامهم على فقيدتهم .. فهذا ليس من شيمنا ولا من طبعنا.. ولكن عندما يحوّلون حزنهم على فقيدتهم إلى حفنة من الدولارات.
القضية ليست مجرد نزاع قانوني بين دولتين بل نزاع حضاري وأخلاقي وإنساني.. فقرار المحكمة الأمريكية احتقار لماري كولفين أولاً لأنه قدّر قيمتها بـ 300 مليون دولار مثل أي ناقلة نفط أو ديزل.. وهو احتقار لكل البشر على هذه الأرض وهي ذروة العنصرية والاستعلاء العنصري لأنها "أمريكا" لم تتبرع بتعويض قدره 300 مليون دولار لأي إنسان قتلته لتطالب بالمثل لأبنائها.. فهي ترى أن الإنسان الأمريكي هبة الله على الأرض الذي إن مات بالصعقة الكهربائية في فندق من حقها أن تطلب من تلك الدولة تعويضاً بـ 300 مليون دولار لأنها أهملت خطوط الكهرباء التي قتلت مواطنها.. ولو عاملنا أمريكا بالمثل فإن الضحايا الذين ماتوا بسبب أمريكا منذ أول هندي أحمر إلى آخر فلسطيني على حدود غزة بالأمس لا يحصون ولكان على الأمريكيين أن يقدموا كل إنتاجهم القومي كل الألفية الثالثة للتعويض عنهم..
ولكن قبل أن يتبرّع المعجبون بأمريكا التي تكرم مواطنيها وتحميهم وتضع لهم أسعاراً خيالية على عكس الشعوب المتخلفة التي لا تبالي برعاياها.. قبل أن يهرولوا إلى هذه المنصة ويقفوا عليها لتحدينا ندعوكم جميعاً لتتذكروا ناشطة أمريكية أخرى تحمل الجنسية الأمريكية وجواز السفر نفسه قتلت أمام الكاميرات بدم بارد.. ولكن أمريكا التي تغضب لم تسمع بها ولم ترها.. إنها الناشطة راتشيل كوري التي سحقتها جرافة للجيش الإسرائيلي أمام الكاميرات ولا يملك أحد أي شكّ أن الجريمة موثّقة ولا يمكن لقاضٍ أن يتجاهلها وينكر أن فاعلها هو الجيش الإسرائيلي الذي لا يمكن التستر عليه.. وللمفارقة نتذكر هنا كيف أن محكمة إسرائيلية نظرت في قضية الناشطة الأمريكية راتشيل كوري أبدت ببرود وبلادة أسفها للحادث ولكنها برّأت الجيش الإسرائيلي من عملية القتل لأنها اعتبرت أن الموت وقع في منطقة "حرب" رغم أن راتشيل لم تكن تسللت بسرية مع مجموعة مسلحة - مثلما فعلت كالفن - بل وصلت بمعرفة كل الجهات القانونية والرسمية إلى الأراضي المحتلة وكانت تدافع علناً أمام عدسات العالم عن بيت فلسطيني اقتربت منه الجرافة لتهدمه وسحقت جسد راتشيل.. وصمتت أمريكا كلها ولم تعترض ولم تعصر مذيعات السي ان ان دموعهن على هذه الوحشية..
الضحيتان أمريكيتان.. لكن ماري كولفين القرصانة تساوي 300 مليون دولار لأنها ماتت بين مجموعة مسلحة إرهابية في منطقة عمليات حربية ولا أحد يعلم كيف ماتت ولا يوجد دليل على مصدر القذيفة التي قتلتها وربما ماتت حسب معلومات تحتاج توثيقاً - أثناء تحضير عبوات ناسفة أمامها لتصوّر للعالم كيف يصنع الثوار حريتهم بالقنابل.. أما راتشيل فهي أمريكية ماتت في منطقة سكنية فلسطينية أمام الكاميرات بجرافة عسكرية سحقتها ولم تكلف محكمة أمريكية نفسها مشقة تغريم الجيش الإسرائيلي حتى كلمة اعتذار..
طبعا لا نريد أن نأخذ هذه الحالة لنقيس بها المعايير المزدوجة التي تتعامل فيها أمريكا مع قضايا العالم لأن استعمال هذه الحادثة لدعم هذا الاتهام إهانة للعقل لأن ما رأيناه من بلطجة ونفاق وتمييز عنصري واعتداء وسرقة ونهب أمريكي للعالم يجب أن يكون قد تحوّل إلى جزء من ثقافة العالم ينغرس فيها كما انغرست ثقافة السلب والنهب في العقل والسلوك الأمريكي..
قدرنا أن نعيش في عالم وقح تديره قراصنة وأن نقاتل الوقاحة والقراصنة.. وكما أن الذئاب على أشكالها تقع.. فإن الكلاب على أشكالها تقع.. وأن القراصنة على أشكالها تقع.. فالإسرائيليون وهم قراصنة بالفطرة منذ أن قرصنوا أملاك الله وكلامه.. أخذوا كل فلسطين عنوة بالسيف وهاهم اليوم يعدّون قائمة طويلة بمئات مليارات الدولارات للمطالبة بتعويضات عن أملاك اليهود العرب الذين غادروا الدول العربية أما الفلسطينيون فعليهم لن يقدموا تعويضات للشعب اليهودي لأنهم سكنوا عقاراته بين الفرات والنيل لآلاف السنين دون مقابل ودون إذن الرب..