الوقت- على تأوهات سعف النخيل الوادعة وأنين الأمواج النائحة، غربت شمس الحديدة شاحبة الوجه مصفرّة الملامح ومعها عشرات الأرواح التي قضت نهارها في كفاح مستميت طلباً لسببٍ يحمل خلفه ما يسدّ رمق العيش ويبقي بقايا أناس على قيد حياة مشروطة بعناء مفتوح يتعشم الضوء في خبايا الأمل. غادرت غاضبة دون وداع تاركة وراءها كومة من الأجساد المتداخلة ببعضها في عناق اللحظة الأخيرة، عناق برائحة الموت المتشبث بسحاب البارود، وسكون واجم إلا من قرع خطا المسعفين وتمتمات صراخ الجرحى، وعلى وشاح السواد تجاورت صفوف الشهداء صامتة على جنبات المستشفى، ليكتمل ذلك المشهد المريع دون أبجدية متاحة تفيه حقه من التعبير المشدوه بهول الفاجعة.
لم يكتفِ طيران العدوان بتمزيق أوصال الصيادين وقواربهم وبعثرتها على حافة الهلاك، بل واصل تتبع أجسادهم الغارقة في دمائها ليستهدفها مرة أخرى على بوابة المستشفى متحدياً سنن الكون وسمات الإنسان في مدينة يحتشد اليوم ومعه العالم أجمع زاعماً تحريرها وإعادة الأمل إلى أوردتها، ومتغنياً بالخوف عليها والحرص على مصيرها في عباب العنف المزعوم، هي ديناميكية التحرير إذاً، وتفاصيل ما ينتظر هذه المدينة من فصول قادمة لمسرحية العودة لأحضان الشرعية اللقيطة وسرب الجمهوريين الجدد المتزملين بجلباب العمالة والارتزاق.
ليس أقبح من الجرم إلا من يبرره ويعلل متنه وسياقه، ويتباهى منتشياً بنصر مقيت على حساب المدنيين والأبرياء في مجازر متتالية لها نفس الأداة والأسلوب وإن اختلفت محددات الزمان والمكان، لكن ما يزيد القبح دمامة هو ذلك النفي السريع الذي علّقت به قوى العدوان على جريمتها نافية أي صلة لها بتلك المجزرة المروعة، وقد تكون لامست جانباً من الحقيقة في نفيها، فهي لم تنفِ الجريمة بل الفاعل، وهي بذلك تؤكد أن هناك أطرافاً أخرى تساندها في قتل اليمنيين دون الرجوع إليها، ولم يكن هذا النفي سوى تأكيد للمعلومات المؤكدة التي تحدث بها قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي قبالة الشهرين والتي مضمونها رصد مشاركة للطيران الإسرائيلي في القصف الممنهج على مدينة الحديدة وضواحيها، لكن المؤكد أن ناطق تحالف العدوان سيطلّ لاحقاً ويعترف مرغماً أن طيرانه هو من فعل، وسيجد العذر المواتي للفعل مع تلاوة متلكئة لنصف اعتذار، كيف لا، وهو وتحالفه أدوات أمريكا المطيعين ودمى إسرائيل المتحركة على صفيح صراع الوكالة الساخن.
يؤمن اليمنيون بأعلى درجات اليقين أن إمعان تحالف العدوان في ارتكاب هذه الجرائم المروعة بحق المدنيين يعكس حقده المتنامي والدفين على أبناء هذه المحافظة الصامدة لعدم استجابتهم للمضي في مشروع الغزو والاحتلال والهيمنة والوصاية الأجنبية وإصرارهم على الالتحام بالجيش واللجان الشعبية للدفاع عن كل شبر في مدينتهم السمراء، لكن ما لا يعلمه العدوان أن هذه الجرائم لن تزيد اليمنيين إلا صموداً وثباتاً وإصراراً على المواجهة بعد أن باتوا يدركون جيداً أبعاد ارتكاب هذه الجرائم وأهدافها التي تسعى لإجبارهم على الخضوع، والقبول بتسليم وطنهم للغزاة والمحتلين، وهو الموقف التهامي الخالد الذي وصفه ناطق حكومة الإنقاذ اليمنية بالموقف الوطني والديني والأخلاقي الذي تحلى به أبناء الحديدة في رفضهم كل المغريات وكل وسائل الترغيب والترهيب وانحيازهم المشرف إلى صف الوطن، لافتاً إلى أن أبناء الحديدة قدموا نموذجاً وطنياً يعيد أبناء تهامة إلى صدارة النضال الوطني ضد الغزاة والمحتلين.
وبالعودة إلى المجزرة وتوقيتها نجد أنها أتت قبل ساعات من إحاطة المبعوث الأممي إلى اليمن "مارتن غريفيث" لمجلس الأمن بتقرير مفصّل عن جولته الأخيرة وما تمخّض عنها في طريق الحل السياسي، والمتتبع لتلك الجلسة سيرصد تنديداً جماعياً لمجزرة الحديدة من كل الأعضاء عدا مندوب حكومة الفنادق "أحمد بن مبارك" الذي انتفض ليبرر لتحالف العدوان جريمته ويبرّئه منها، وفي هذا التوقيت تحديداً تؤكد قوى العدوان أن جهود المبعوث الأممي حبر على ورق، وأن معركته مع السلام مضيعة للوقت، وأن معادلتها الجديدة لردع الخطر اليمني الباليستي والمسيّر من استهداف عواصمها ومنشآتها الاقتصادية والعسكرية لن تكون إلا باستهداف المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، ومنازلهم ووسائل عيشهم، والأهم من هذا وذاك هو أنها ليست بحاجة لموافقة أممية لتنفيذ أجندتها وتحقيق أهدافها التي باتت واضحة للعيان في تحرير اليمن من اليمنيين وإرسالهم إلى عالمهم الآخر بين روضة ومقبرة.
بقلم: فؤاد الجنيد