الوقت- طوى العراقيون بعد استكمال الانتخابات البرلمانية الجديدة التي أقيمت في 12 مايو 2018 صفحة من تاريخهم المعاصر، وبدؤوا بكتابة فصل جديد من تاريخهم الحديث الذي يبدو أنه سيكون مليئاً بالتطورات السياسية والاجتماعية.
هذ الفصل الجديد يمكن تقسيم ميزاته في أربعة أبواب أو محاور أساسية: المحور الأول: هو نجاح العراقيين بعد 4 سنوات من الحرب الضروس بهزيمة أكبر مجموعة إرهابية في التاريخ (تنظيم داعش الإرهابي) واستعادة السيطرة على جميع الأراضي التي احتلها التنظيم الإرهابي وصولاً إلى الحدود مع كل الدول المجاورة بعد أن قدّموا تضحيات كبيرة في هذه المعركة المصيرية التي كانت تهدّد وحدة البلاد وبقاء العراق.
أما المحور الثاني، فهو قضية كركوك، ففي 17 أكتوبر / تشرين الأول 2017 تمكّنت قوات الجيش والشرطة العراقية وقوات مكافحة الإرهاب بمؤازرة قوات الحشد الشعبي من الوصول مجدداً إلى مدينة كركوك التي كانت خاضعة لسيطرة القوات الكردية والتي تشكّل جزءاً من المناطق المتنازع عليها في محافظات ديالى ونينوى وصلاح الدين بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان وبالتالي إحباط مؤامرة تفككيك العراق والمساس بالسيادة الوطنية بعد أن عادت جميع أنحاء البلاد لسيادة أبنائه.
التطور الثالث: والمهم في عراق ما بعد الانتخابات هو تعزيز روح الاستقلال والإدارة الذاتية المستقلّة بين التيارات السياسية في البلاد، باعتبار أن السياسيين العراقيين في هذه المرحلة الجديدة على دراية كافية أن وجود قوى أجنبية على أراضيهم ولاسيما القوات الأمريكية يتناقض مع السيادة العراقية كون الأغلبية العظمى من العراقيين لا ترحّب بوجود هذه القوات ويعتقدون أيضاً بوجوب مغادرتها فوراً، ورفض جميع المبررات التي تحاول واشنطن تسويقها داخلياً لاستمرار وجودها عسكرياً.
وأخيراً يمكن اعتبار ظهور جهات فاعلة جديدة على الساحة السياسية العراقية هو السمة الرابعة للتاريخ العراقي الجديد، وأهم التطورات السياسية والاجتماعية في عراق ما بعد الانتخابات، حيث ظهرت إلى العلن جهات لها ثقلها الكبير على الأرض كانت حتى الأمس القريب مغيبة عن المشهد السياسي في البلاد، أما اليوم فإن أرض الرافدين تشهد وجود قوى فاعلة اجتاحت الحياة السياسة بشعارات جديدة، على سبيل المثال قوات الحشد الشعبي التي دخلت معترك الحياة السياسة بعد أن كانت في خضم معركة التحرير من الإرهاب وكان لها الدور الأبرز في إنقاذ البلاد من خطر تنظيم داعش الإرهابي، وهذه القوى دخلت قبة البرلمان باسم ائتلاف فتح وبكتلة وازنة (47 نائباً) تشكل ثاني أكبر الكتل البرلمانية في الانتخابات بعد كتلة سائرون التي يتزعمها السيد مقتدى الصدر (54مقعداً)، حيث تمكن هادي العامري من قيادة الائتلاف إلى انتصار انتخابي حقيقي أظهر الثقل الجماهيري الوازن لقوات الحشد الشعبي، رغم الاعتراض الأمريكي الكبير على تمثيل الحشد الشعبي في البرلمان، حيث شنت واشنطن قبيل الانتخابات موجة تحريض كبيرة في محاولة لشيطنة أي قوى عراقية مقاومة لها، وصولاً إلى إقرار مجلس النواب الأمريكي قبل أيام تشريعاً جديداً يمهد لفرض عقوبات على فصيلي الحشد الشعبي عصائب أهل الحق بقيادة الشيخ قيس الخزعلي وحركة حزب الله النجباء بقيادة الشيخ أكرم الكعبي.
وبما أنّ القرار الأمريكي ظهر إلى الإعلام قبل أيام قليلة فإن السؤال المطروح الآن ما هي أهداف واشنطن من هذه الخطوة؟ ولماذا اختارت هذا التوقيت بالذات أي بعد بضعة أيام من إعلان النتائج النهائية للانتخابات العراقية وإدراج جزء من الشعب العراقي ممثلاً بالبرلمان في قائمة الجماعات الإرهابية؟، عند النظر إلى بعض المعطيات المهمة يمكن الوصول إلى بعض الحقائق التالية:
إضعاف المحور المناهض لأمريكا في العراق:
تسعى أمريكا من وراء هذا القرار المتمثل بإدراج التيارات المقاومة العراقية مثل عصائب أهل الحق، وحركة الجنة وكتائب حزب الله على قائمة الجماعات الإرهابية إلى محاولة تقويض ومحاصرة المحور المناهض لها في العراق، فنتائج الانتخابات العراقية كانت بحق استفتاءً واضحاً للبرامج الانتخابية التي تبنتها الكتل العراقية، ومن بينها الكتل التي اكتسحت المشهد السياسي حالياً والتي رفعت شعارات مناهضة للمشروع الأمريكي في العراق وطالبت علناً بطرد القوات الأمريكية حتى لو كلف الأمر إشعال مواجهة عسكرية معها، وبحسب النتائج الانتخابات فإن هذا الخط لاقى استحساناً جماهيراً واسعاً إذا نظرنا إلى الثقل الكبير للكتل السياسية التي تبنت هذا الخيار ومن بينها كتلة السيد مقتدى الصدر (كتلة سائرون)، ومن الضروري هنا التذكير بأن السيد الصدر لم يهدد برفع السلاح بوجه أمريكا فقط بل استخدمه في عام 2003 مع بداية الغزو الأمريكي للعراق والسجلات الأمريكية لخسائر الحرب في العراق شاهدة على ذلك.
خلق أسباب للتأثير على مستقبل الحكومة العراقية
أمريكا التي فوجئت بانتصار التحالفات المناهضة لها، سعت إلى محاولة التغلغل بين هذه القوى من خلال وصف بعضها بالإرهاب لعلها تنجح في تفتيت هذا المحور على قاعدة فرق تسد، وهي تسعى أيضاً من خلال هذا الإجراء إلى خلق مجال للتدخل في الحكومة العراقية المستقبلية، وهو ما أكده بشكل واضح بيان حركة النجباء الذي اعتبر قرار الكونغرس تدخلاً خارجياً سافراً بالشأن العراقي وطالب الحكومة العراقية بأن تسجّل موقفاً واضحاً وحازماً تجاه هذه التدخلات السافرة واتخاذ إجراءاتها بحق السفارة الأمريكية في بغداد.
ازداوجية واشنطن التي تدّعي مكافحة الإرهاب
هذا القرار الأمريكي يشكّل دليلاً جديداً على الازدواجية الأمريكية وجودة معاييرها لتصنيف الجماعات الإرهابية، فالكل يعرف أن هذه الفصائل العراقية (النجباء- حزب الله- أهل الحق) كانت على رأس قائمة من حارب تنظيم داعش (المصنف إرهابياً بإجماع دولي) وصولاً إلى هزيمته الساحقة، ولكن واشنطن كالعادة تجاهلت هذه الحقائق كاملة، وباب الإرهاب عندها مفتوح لأي فصيل أو حتى لأي شخص يعارض أجندتها أو يفضحها ويفضح حلفاءها الذين يشكلون الراعي الرسمي للإرهاب الدولي، وهذا هو المعيار الوحيد كما يبدو لدخول قائمة الإرهاب الأمريكية أو الخروج منها.