الوقت- نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في الأيام الماضية عن جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد قوله إن موقف الأمريكيين من التفاوض على نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية يجب أنّ يتم على أساس "النموذج الليبي"، في حين وجّهت بيونغ يانغ يوم أمس رسالة لواشنطن مفادها "إذا كنت جادة بشأن السلام ونزع السلاح النووي فالأحرى بك ألّا تذكري ليبيا"، تصريحات بولتون دفعت القراء والباحثين إلى التساؤل حول المعنى الحقيقي للنموذج الليبي الذي يريد بولتون ورئيسه ترامب الاستفادة منه من أجل نزع السلاح النووي الكوري الشمالي بأسرع وقت ممكن، وهنا طرحت عدة سيناريوهات من بينها نزع السلاح الليبي الذي جرى بين عامي 2003 و2004 ليتبعها تدخّل أجنبي عام 2012. فهل من الممكن تطبيق هكذا سيناريو في كوريا الشمالية؟
بين عامي 2003 و2004، وبعد ازدياد التهديدات والضغوط الأمريكية على ليبيا بشأن قضايا الإرهاب، اضطر معمر القذافي إلى رفع راية الاستسلام ووافق على تفكيك المنشآت النووية ونقل معداتها إلى أمريكا في غضون عامين، وللإجابة على السؤال المطروح في المقدمة يجب القول إن كوريا الشمالية بقيادتها خائفة من أن يتكرّر نموذج احتلال العراق وطرابلس من قبل القوى الغربية على الأراضي الكورية، لكن الميزة الجيوسياسية لبيونغ يانغ تمنحها القدرة والقوة على الجلوس مع أعدائها للتفاوض حول برنامجها النووي.
الاعتماد الجيوسياسي لكوريا على الصين وروسيا
تعدّ الحدود المشتركة بين كل من كوريا الشمالية والصين وروسيا (حلفاء الأمس أصدقاء اليوم) من أبرز مميزات الجيوسياسية التي تتمتع بها كوريا الشمالية. هذا الموقع الجيوسياسي المهم يمكن أن يلعب دوراً مهماً في ردع الأعداء في أي حرب قادمة، وفي الواقع، لن تسمح كل من موسكو وبكين لأمريكا وحلفائها الإقليميين، بتجاوز كوريا الشمالية وذلك في سبيل حماية أمنها واستقرار حدودها. وسيعدّ انهيار النظام في كوريا الشمالية بمثابة فقدان أحد أهم أصدقاء الصين وروسيا في شرق آسيا، وسيؤدي بشكل حتمي إلى عدم الاستقرار على حدود البلدين.
وعلى الرغم من أن روسيا والصين في أواخر الثمانينات من القرن الماضي حاولتا تقوية علاقاتهما مع كوريا الجنوبية والتخلي عن دعمهما غير المشروط لكوريا الشمالية، إلا أن الواقع الجيوسياسي لم يسمح باستمرار ذلك. وهنا يمكن القول إنه في حال وقعت الحرب بقيادة أمريكا أو وكلائها في شبه الجزيرة الكورية (كاليابان وكوريا الجنوبية) ضد كوريا الشمالية، فمن المرجح أن تعارض الصين بشدة هذا التدخل العسكري، وذلك لأسباب من بينها أن انهيار النظام الشيوعي في الشمال قد يؤدي إلى تقويض شرعية الحزب الشيوعي في الصين. بالإضافة إلى ذلك، فإن انهيار نظام الدولة المجاورة يمكن أن يسبب عدم الاستقرار على الحدود بين كوريا الشمالية والصين كما ستصبح بيونغ يانغ دولة في يد عدو الصين الأول وهو أمريكا. كما أن الحرب ستكون تكلفتها كبيرة على الصين إذ إنها ستتحمل أعباء المهاجرين والهاربين من أتون الحرب، ونتيجة لذلك، سيتعين على الصين استخدام قوتها العسكرية لمنع أمريكا من السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة.
ولن يسمح الكرملين الروسي أيضاً بشنّ أمريكا حرباً على كوريا الشمالية وذلك لأسباب تتعلق بأمن روسيا القومي، حيث ستؤدي هذه الحرب إلى محاصرة موسكو بالكامل (من الشرق هي محاصرة من الحلف الأطلسي الذي تقوده أمريكا)، كما سيؤدي إلى فقدان القوات العسكرية الروسية لقاعدة بحرية شرق روسيا بسبب وقوعها بالقرب من كوريا الشمالية، ويشير بعض المحللين هنا إلى أن روسيا ليس لديها الكثير لتخسره من أمريكا كالصين التي تربطها علاقات اقتصادية كبيرة، والمرجح أن تتدخل عسكرياً إلى جانب كوريا ضد القوات الأمريكية والغرب.
أمريكا واستحالة تغيير الشطرنج الجيوسياسي في شرق آسيا
لذا فإن كيم جونغ أون، يعلم جيداً مميزات بلاده الجيوسياسية، ومن أجل رفع العقوبات الاقتصادية التي تفرضها أمريكا وحلفاؤها عن كوريا الشمالية دخل في مفاوضات فيما يخصّ نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، وإن قمنا بمقارنة الموقع الجيوسياسي لكوريا مع كل من العراق وليبيا، نرى أن هاتين الدولتين لا تملكان موقعاً استراتيجياً (إلى جانب قوتين عالميتين) قد يؤثر في سياسة هذه الدول ويمنع أي خطر خارجي عن البلاد. ولقد ارتكبت حكومتا هذين البلدين، ولا سيما ليبيا، خطأ استراتيجياً كبيراً بتدميرها سلاحها النووي بسبب عدم معرفتها الميزة الجيوسياسي الضعيفة لبلدها، لذلك، في السياق الحالي، ينظر القائد والمسؤولون الكوريون إلى الميزة الجيوسياسية لبلدهم كرادع، مثل الردع النووي، في التفاوض مع أعدائهم.
ختاماً، إن جميع التغييرات الأخيرة التي تحدث في شبه الجزيرة الكورية، حتى لو افترضنا ان نتائجها ستكون إيجابية، قد تؤثر إلى حدّ ما على الواقع الجيوسياسي في المنطقة، ولكن تأثيراتها لن تكون كبيرة، كما أن الضغط الجيوسياسي على أمريكا لن يسمح لها بسهولة أن تغيّر لعبة الشطرنج الجيوسياسية في شرق آسيا، وهنا يمكن القول إن الضربة العسكرية على كوريا الشمالية تكمن في دائرة جيوسياسية مستحيلة.