الوقت-تصادف اليوم الذكرى السنوية لمؤتمر وادي الحجير، الذي اجتمع فيه اللبنانيون منذ 98 عاماً للتصدي للاحتلال الفرنسي، ويستحق هذا التاريخ منّا أن نقف عنده لنضيء الصورة أمام الأجيال الحالية لترى أن النهج الإسلامي كان المتصدي دوماً لكل المؤامرات وأشكال الاحتلال المختلفة.
ظروف انعقاد هذا المؤتمر
في ذلك الوقت كانت مناطق جبل عامل تعيش مناخاً شديد التوتر، حيث كان الفرنسي يعي خطورة هذه المنطقة، لذلك عمل على بث الفتن بين المسلمين والمسحيين عبر عملائه، والتي كان أخطرها في "صور" يوم 19 نيسان حيث اجتمع شبابها بالمتطوعين مع الفرنسيين من سكان جبل عامل، وأدّى ذلك إلى النفور والشتم والضرب.
وفي الليلة التالية تجمّع عملاء الفرنسيين للرد على الحادث بعمل أثار مشاعر المسلمين إذ هاجموا إحدى المقاهي وهم يجهرون بالشتم والسباب للملك فيصل وأهله ولنسائه... ولم يتحاشوا القذف بحق النبي "ص"، ووصل الأمر إلى مرحلة يقول فيها السيد عبد الحسين شرف الدين:" تناهى إلى أسماعنا أنه اُعتدي حتى على بعض الأعراض".
لذلك كان لا بدّ من مؤتمر يُعنى ببحث جذري للعلاقات السياسية والأمنية بين المسيحيين والمسلمين، ويفوّت على الفرنسيين فرصة إشعال فتيل الفتنة الطائفية ويعيد العلاقات بين المسلمين والمسحيين إلى الوئام الذي ساد في جبل عامل منذ عقود.
وأمام هذه العوامل وازدياد الضغوط على الزعيم السياسي "كامل أحمد الأسعد"، الذي وقع بين خيارين، الأول: ضم جبل لبنان إلى سوريا الكبرى، والثاني: البقاء في تحالفه مع الفرنسيين، فإن وافق على الخيار الأول فسوف يعاقبه الفرنسيون، وإن رفض الأمر توجست منه المقاومة ورجالاتها. ليظهر السيد شرف الدين ويدعو إلى انعقاد مؤتمر استنهاضي يضع الأمور في نصابها الحقيقية، وبشكل تحصيلي يخرج الأسعد من هذا المأزق، حيث إن المؤتمر بحد ذاته تحدٍ كبيرٍ للاحتلال آنذاك.
وهكذا تجمعت العوامل التي دعت إلى عقد مؤتمر تاريخي شامل، يجمع مختلف الفئات والتيارات وتصدر عنه خيارات مصيرية حاسمة حول المواضيع السياسية العالقة ويكون من أهدافه تحديد مصير جبل عامل السياسي، ومنع الفتنة الطائفية، وإعلان الشيعة عن احتضان الأقليات وحمايتها كجزء من مشروع الدولة الوحدوي الكبير، وإعلان الشيعة أيضاُ لوحدويتهم والتأكيد عليها ورفض الانتداب الفرنسي.
لماذا وادي الحجير؟
إن تحديد وادي الحجير مكاناً لانعقاد المؤتمر يخضع للتاريخ والجغرافيا، إذ يعتبر خروجاً على الأعراف والتقاليد التاريخية، بانعقاد الاجتماعات العامة في عواصم البكوات والزعماء والإقطاعيين ودورهم في ذلك الوقت، ويعود انعقاد المؤتمر في هذه المنطقة الجغرافية الصعبة، بين الجبال والوديان والصخور إلى ثلاثة أسباب:
1- جغرافياً يقع وادي الحجير في منطقة وسطية بين شمال النهر وجنوب النهر وهو يستطيع استيعاب الحشد الجماهيري الوافد إلى المؤتمر.
2- بطبيعته الفيّئة ومياهه الجارية والحيوية التي يتمتع فيها بوجود المطاحن والزرع الأخضر، يسمح بتوفر أفضل الفرص لإنجاح المؤتمر.
3- البعد الأمني للوادي، فهو خارج عن نطاق وجود قوات الاحتلال الفرنسي، إضافة إلى أن الوادي له مدخلان تستطيع المقاومة أن تقفلهما أمنيّاً، لأن قادتها كانوا مشاركين أساسيين في المؤتمر كأدهم خنجر وصادق حمزة، وهم مستهدفون من قبل الفرنسيين.
قيمة المؤتمر
تكمن أهمية المؤتمر في الخطبة التي ألقاها السيد عبد الحسين شرف الدين في تلك المرحلة التاريخية والتي كان لها صدىً في شدّ عصب المجتمعين، حيث قال للجماهير "أنتم إما أمام ذلّ أو عزّ لا تستطيعون العيش بحالة رمادية".
كما حذّرهم من الخبث الفرنسي عبر بث الفتن بين المسلمين والمسيحيين وقال لهم كلمته المشهورة: "إلا أن النصارى إخوانكم في الله والوطن والمصير". إضافة إلى دعوته ضم جبل عامل إلى سوريا الكبرى لأنه كان يعتقد أن هذا الجبل مهدد بالانقراض، وهنا تميز سماحة السيد باستشراف كبير للمستقبل حين قال ليس الفرنسيون من يقومون بهذه المهمة بل "الدولة العبرية" القادمة هي من ستقوم بها.
وقد صدر عن المؤتمر عدة قرارات أهمها:
أولاً: الحفاظ على النصارى عبر الوقوف الموّحد في وجه الفتن التي يبثها الفرنسي بين المسلمين والمسيحيين وعدم انزلاق المقاومة إلى وحول الفتن الداخلية .
ثانياً: رفض الوصاية الأجنبية ومبايعة الملك فيصل على تطهير البلاد من الانتداب الفرنسي
ثالثاً: الموافقة على المقررات الصادرة في المؤتمر السوري، أي استقلال سوريا الشامل بإمرة فيصل ورفض تقسيم سوريا.
رابعاً: انضمام جبل عامل إلى الدولة العربية في إطار الاستقلال الإداري.
ختاماً، يمكننا القول إن المتابع للمرحلة الحالية وتشعباتها يدرك تماماً أن التاريخ يعيد نفسه، فالعدو موجود وحبائل الفتن ممدودة وتنتظر من يمسك بها، لذلك ما يجب التركيز عليه اليوم وفي ذكرى مؤتمر الحجير الذي كان شاهداً على هزيمة أعداء لبنان، أن الخطوط التي رسمها السيد عبد الحسين شرف الدين في خطابه التاريخي لا تزال سارية المفعول حتّى يومنا هذا، وبالتالي فإن أيّ تذبذب من الزعماء (كما فعل كامل الأسعد حينها) يعني أن التاريخ سيلفظهم ولن ترحمهم أمتهم وشعوبهم.