الوقت - تواتر هذه الايام في العراق الدعوات الى دولة مدنية حتى باتت التفسيرات لاغلب التصريحات لهذا المسؤول أو ذاك على انها دعوة الى الدولة المدنية, ويبدو ان أغلب دعاة هذه الدعوة يعتقدون ان هذه الدولة تعني الافتراق عن الدين, والذهاب الى الالحاد الشائع في يومنا هذا بين أوساط الشباب, والتهرب من قيم الدين, وحتى نكون اقرب لهذا التعريف دعونا نقرأه معا الدولة المدنية دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية.
والسؤال: هل ان هذا التعريف غائب عن نصوص الدستور العراقي؟الدستور العراقي يقول "جمهورية العراق, دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة, نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني)" وفقا لهذا التعريف, فان العراق اسوة بجميع الدول التي تعتمد النظام البرلماني في العالم, اسوة ببريطلنيا وسويسرا واندونيسيا, ودول اخرى كثيرة , وهذه الدول تسمى (دول مدنية (!!
وحتى عندما يورد الدستور (الاسلام دين الدولة الرسمي وهو مصدر اساس للتشريع) ويؤكد في المادة الثانية الف (لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام ) فهذا الامر سواء كتب أو لم يكتب فانه قانون ثابت في نفوس المسلمين الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان العراق, ولايستطيع احد التجاوز على (ثوابت الاسلام) والذين تجاوزوا عليها نالوا عقوبتهم على يد المسلمين قديما وحديثا, كما ان الدستور العراقي لايغفل الحداثة في التعاطي مع المسميات فيقول في المادة الثانية باء (لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الديمقراطية)
اذن الدستور العراقي لم يتعامل خارج مباديء "الدولة المدنية" ولم يضع نصا ضد مشروعها, وليس هنالك من نص يمنع الاحزاب غير الدينية من دخول الانتخابات, والدليل ان الحزب الشيوعي وما في ادبياته من تقاطعات مع مباديء الاسلام الحنيف, قد اشترك في الانتخابات وحصل على نصيبه من المشاركة في ادارة الدولة, فلا الاحزاب الاسلامية وقفت ضده, ولا الدستور منعه, كما ان الاحزاب الكوردية لم تدخل الانتخابات في كل الدورات التشريعية باسم الدين انما دخلت بمسميات (الديمقراطية) مثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني و(الوطنية) مثل الاتحاد الوطني الكوردستاني وهناك احزاب كوردية دخلت بمسميات اسلامية, بل هناك احزاب دخلت بجذور شيوعية.
البعض يعتقد (واهما) ان تصدي الاحزاب الاسلامية, للمشهد السياسي العراقي منع من الذهاب الى (الدولة المدنية), والحقيقة ان هذه الاحزاب الاسلامية كانت احزاب معارضة للانظمة الدكتاتورية , وقد كافحت سنوات طوال ضد هذه الانظمة, وليس هنالك من حزب كان معارضا, وتقدم للمشاركة في الانتخابات بعد سقوط النظام البائد ومنع من المشاركة, لاي سبب كان, حتى ان الاحزاب العلمانية والاسلامية اشتركت معا في اغلب المؤتمرات التي كانت تعقد خارج العراق قبل سقوط النظام البائد .
أن مشكلة الاحزاب الدينية التي شاركت في العملية السياسية في العراق, ولعدة دورات تشريعية, انها شاركت باسماء دينية , لكنها عملت بتجربة سياسية غربية !! فالنظام البرلماني بتفاصيله نظام غربي, لذا فأن هذه الاحزاب وخاصة الاسلامية منها, لم تستفد من ادبياتها والمباديء التي ضحت من اجلها, بل العكس خسرتها, حين لم تستطع ان تقدم شيأ الى شعبها وكانت سببا لتفشي الفساد الاداري والمالي في البلد, فيما حمّلها الشعب المسؤولية الكاملة لهذا الفشل, وان حاولت ان تدافع عن نفسها بأن اغلب المناصب كانت للمدنيين وليس للاسلاميين, وهذا غير كاف!! , وكان من المفروض, ان لم تستطع ان تفرض عقيدتها التي امنت بها , وكافحت من اجلها وعاشت الغربة والمرارة , ان تفرض على الاقل قيم الاسلام الذي تؤمن به , عبر سلوكها ومعاملاتها , والتأثير في محيط عملها, حتى يرى الاسلام فيها وان لم تكن عقيدة حاكمة في البلد, ثم ان هذا السلوك سيتحول الى مشروع سياسي, فالرسول الكريم محمد (ص) قبل يكون رسولا كان يسمّى الصادق الامين .! والدين في تعريف الدولة المدنية يؤكد (يجب عدم معاداة الدين أو رفضه, فالدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم) ودليلنا في العراق, ماحققته فتوى المرجعية الرشيدة في الجهاد الكفائي حيث حولت الهزيمة الى نصر مؤزر !!
أما نظام (المحاصصة) سواء كان عرقيا او طائفيا أو دينيا, غير موجود في الدستور العراقي, وهذه بدعة أوجدها السياسيون ليتقاسموا السلطة, ويسفّهوا نتائج الانتخابات, والا فهي خارج تقاليد الديمقراطية! باختصار شديد ان العراق, عندما يراد له ان يتطور, يجب ان يحكم بكل تاريخه وارثه الديني والاجتماعي والسياسي والقيمي, وان الامم التي يقال لها (متقدمة), استفادت من جميع مصادر القوة التي تمتلكها من انسان وتاريخ وارث ثقافي, وارض ومياه, وتنوع بشري, وعقائد واديان ..الخ, وان أي حالة تنازل عن احداها سيتحول الامر الى ضعف وفشل, وفاعلية هذه التشكيلة تكمن في حالة من التفاهم والتجانس, والعلة ليست بالعقائد, سواء الاسلامية او القومية, او العلمانية, انما العلة بالامة التي لم تستفد من أي منها, وراحت كلما فشلت تشتم ذاتها, وتحمل العقائد مسؤولية فشلها!!. يقول احد الكتاب الكنديين (اكثر دولة فيها تعدد عرقي وديني في العالم ) أن احد مصادر قوة كندا انها متنوعة !!
الكاتب والمحلل السياسي محمود الهاشمي