الوقت - يعدّ الفضاء المجازي أحد أبرز ساحات الحرب والصراعات القائمة بمفهومها الناعم. وكما تولي الدول والجيوش ميزانيّة ضخمة لملف التسليح وإبرام الصفقات العسكرية، تخصص جزءاً لا يستهان به من ميزانيّتها العسكريّة للحرب الإلكترونيّة، والكيان الإسرائيلي ليس عن هذا الأمر ببعيد.
رئيس الأركان الجنرال غادي إيزنكوت الذي تسلّم منصبه في 16 فبراير/شباط 2015، خلفا لـ بيني غانتس، اتخذ قبل يومين سلسلة من القرارات الإدارية لتحسين قدرات الجيش في مواجهة الحرب المعلوماتية والإلكترونية والقرصنة. وقد أسند الجنرال إيزنكوت مهمة تطوير الجوانب الدفاعية للفضاء الإلكتروني هيئة الاتصالات الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي في حين تتولى هيئة الاستخبارات العسكرية المهام الهجومية بالفضاء الإلكتروني.
القرار الجديد يأتي تتويجاً لعدّة قرارات سابقة من قبل رئيس الأركان ففي صيف العام 2015 كافأ الجنرال إيزنكوت "وحدة 8200" ( أهم الوحدات الإلكترونية "السرية في المؤسسة العسكرية" الإسرائيلية) بتطوير وضعها الميداني إلى "قيادة سايبيرية،"، ما يخوّلها "الإشراف على كافة الأنشطة العملياتية في الفضاء الافتراضي".
لم تتوقّف قرارات "إيزنكوت" عن هذا الحد، بل اتّخذ حينها قرارًا بإعادة تنظيم بنية الحرب الإلكترونية حيث يكون "قسم السايبر" مسؤولاً عن تفعيل القوة في كل ما يتعلق بمجال الشبكة العنكبوتية. وقد أوضح في قراراته السابقة ضرورة البدء في استخلاص العبر بعد سنة من أجل فحص البنية الجديدة ومدى تحسين نشاط السايبر في الجيش، وهذا ما يفسّر القرارات الأخيرة.
أسباب عدّة تفسّر هذا التوجّه العسكري نحو الفضاء الإلكتروني، أبرزها ما ذكره مصدر عسكري كبير في الجيش الإسرائيلي، قائلاً إن التهديدات في هذا المجال تعتبر تهديدات حقيقية ويجب إجراء كافة الاستعدادات لمواجهتها. كذلك، تُجمع كل الجهات المرتبطة بقضايا الأمن القوميّ الإسرائيليّ، على أنّ "أيّ حرب إلكترونيّة تُشّن على "إسرائيل" يُمكن أنْ تُحدث أضرارًا إستراتيجية، خصوصًا لأنّ الحرب الإلكترونيّة هي من أبرز ثمار ثورة تكنولوجيا المعلومات والإنترنت".
ويوضح رئيس شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، الجنرال نمرودشيفر، في كلمة أمام مؤتمر "هرتسيليا" العام الماضي أنّ "إسرائيل" كانت قد أدركت واستثمرت وأصبحت إحدى الدول العظمى في مجال السايبر في العالم، لكن السؤال الأبرز يبقى: لماذا كل هذا الإهتمام العسكري، الدفاعي والهجومي، في الفضاء المجازي؟
هناك أسباب عدّة تفسّر هذا الاهتمام الإسرائيلي بالفضاء المجازي، نذكر منها:
أولاً: الأهمية التي يحظى بها هذا النوع من الصراعات التي تتغيّر فيها قواعد اللعبة من مفهومها النمطي الذي يعتمد على القوّة الخشنة أو العنفيّة، إلى مفهومها الناعم عبر الوسائل التكنولوجية التي تلعب على العامل النفسي بشكل أكبر من القوى العسكرية المتعارف عليها.
ثانياً: شنّ الهجمات السايبرية على الأعداء، خاصّة أن الكيان الإسرائيلي، بالتعاون مع أمريكا، وقف خلف هجمات ستاكس نت ضد المنشآت النووية الإيرانيّة، فضلاً عن حماية منظوماته من أي ردود فعل مرتقبة، أو هجمات تدخل في إطار الحرب السايبرية القائمة في العالم. في الحقيقة، لا تشكل هذه الساحة تهديداً للدول والجيوش، بل لكافّة المؤسسات والأفراد، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجحت شركة "سيليبرايت" الإسرائيلية للهواتف النقالة (تأسست عام 1999 في فلسطين المحتلة، ومقرّها مستعمرة "بتاح تكفا،" القريبة من مدينة يافا، وترتبط بعلاقة وثيقة مع وحدة 8200 التي تعدّ المصدر البشري للشركة) نجحت في فكّ شيفرة جهاز "أبل" بعد عجز الحكومة الأمريكية عن الحصول على ذلك من قبل الشركة نفسها، ما يشكّل انتهاكاً للخصوصيّة (التجسس والتنصت)، فما الذي يضمن أن لا يطال الأمر بطاقات الائتمان وغيرها؟
ثالثاً: لا تخفي السلطات الإسرائيلية خشيتها من القدرات الإلكترونية لبعض الدول في مقدّمتها إيران وروسيا والصين. هناك سعي إسرئيلي غربي للتركيز على الحرب السايبرية في الخارج، وذلك في إطار عملية نفسية تستهدف ابتداءً شعوب هذه الدول بغية التعمية على التجاوزات الداخلية القائمة في هذا السياق عبر الرمي بكرة الهجمات التي لم تحدّد وجهتها في ملاعب الدول الثلاث (روسيا، إيران والصين).
رابعاً: ما يعزز ما ذُكر أعلاه، هو محاولات الناتو لإيجاد تحالف إلكتروني قوي، فيوضح في أحد أعداده الصادرة في مجلّته "http://www.nato.int/" "أثبتت موجات الهجمات الإلكترونية الخطيرة التي امتدت لثلاثة أسابيع أن مجتمعات الدول الأعضاء في الناتو تعتمد بشكل أساسي على الاتصالات الإلكترونية وهي معرضة بشكل كبير للمخاطر على الجبهة الإلكترونية"، وبالفعل نجح الناتو بعد عدّة دعوات أطلقها "لتحسين قدراته الدفاعية ضد الهجمات الإلكترونية كجزء من التزام براغ المتعلق بالقدرات والذي تم الموافقة عليه في نوفمبر 2002، لكن في السنوات التالية، ركز التحالف بشكل أساسي على تنفيذ تدابير الحماية السلمية المطلوبة للجانب العسكري"، نجح بالتوصّل إلى بناء خطة "الدفاع الإلكتروني 2" في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2010. وقدّ تم تحديث هذه الخطة فيما بعد بدعوى التهديد الأمني.
خامساً: لا يمكن التغافل عن قدرات إيران، أبرز أعداء الكيان الإسرائيلي في هذا المجال، حيث يوضح مُحلل الشؤون العسكريّة في صحيفة (يديعوت أحرونوت)، إليكس فيشمان، أنّ التجربة قد دلّت على أنّ لدى الإيرانيين القدرة على تنفيذ هجمات إلكترونية بالغة الخطورة، ويضيف: يمتلك الإيرانيون سجلاً حافلاً من الإنجازات في مجال الحرب الإلكترونيّة. كذلك، تنقل صحيفة "هآرتس" عن شركة "تشاك بوينت" المتخصصة في أمن المعلومات والحواسيب، اختراق الهاكرز الإيراني حواسيب مسؤولين عسكريين إسرائيليين رفيعي المستوى، إضافة إلى علماء فيزيائيين وعلماء نوويين. وقد أوضحت الشركة حينها أنّ الاكتشاف جاء نتيجة تحقيق خاص نفذته الشركة، وبمساعدة من السلطات البريطانية والألمانية والهولندية.